أقلام ثقافية
عبد الهادي عبد المطّلب: متاهات الوجوه

تنبيه أول.. (هذا وجهي، لا أعرفه، لا يُرى بوضوح إلاّ من بعيد)
قبل أن تدخل غمار هذه الشذرات/المتاهة، وتجتاز عتبتها، عليك أن تنظر إلى وجْهِكَ في المرآة أوَّلاً، فلستُ مسؤولا إنْ أنْتَ خرجتَ من هذه المتاهة بوجهٍ غير الذي به دخَلْتَ، أو بوجهٍ لا تعرفه، فوجهي، أنا الذي عشتُ هذه المتاهة، لا يُرى بوضوحٍ إلاّ من بعيد، لهذا فأنا لا أعرفه.
تنبيه ثاني.. (لا تقل إنّك تعرفُ وجهك الذي تحمله)
هل تؤمن بقولهم: «يخلق من الشبه أربعين»؟ أنا شخصيا لا أومن بهذا، إذ لا يوجد أساس علمي يُثبتُ صحّته، لكنّ بوجوهي المتعدّدة التي ستراني بها، والّتي تلاحقني وأُلاحقها، والتي لا تشبهني ولا أُشْبِهُها، بدأتُ لا أعرفني كأنّما وجهي قناع.
كأنّي قارئُ وجوه، تتبدّل لكلّ غاية مفيدة، حتّى أنّي نسيت وجهي الأصل، نسيت هويته حين اعتاد على التّخفّي وراء الوجوه الأخرى، ولم يَعْتَدْ على الظّهور المكشوف، فهل بعد تبديل الوجوه فرصة للعودة إلى الوجه الأصل؟ أمارس عادات اكتسبتها من فرط الوجوه التي أحملها وتحملني؛ كالبكاء بلا دموع، والضّحك بلا تهاليل؛ أمارسُ طقوسَ التّصنُّع والاختباء. الوجه كما يقول الكاتب والروائي المصري سعيد مكاوي «دائما ملتبس، غالبا ما يعكس خلاف مكنونه، في قسوته مُحيّر، وفي براءته مزيّف، وذمامته جمال مستتر، الوجه الإنساني بمفهومه المتّفق عليه هو الذي لم نعرفه بعد» .
تنبيه ثالث.. (الوجوه متاهات مُضَلِّلَة)
من كثرة ما قلَّبْتُ الوُجوه وتقلَّبتُ فيها؛ أعتقد، غير جازم، أني فهمتها، أو على الأقل فهمت وجوهي التي أحمل، أو هكذا يُخيّل إليّ حين أنظر إلى معرض الوجوه وهي تمر أمامي مرَّ الهواجس والشُّكوك التي تعتريني، وتوقظ في داخلي أسئلة تتعدّد بتعدُّد الوجوه الضّاحكة والباكية، المكشّرة والمُنْفرجة، الحالمة واليائسة، المُتعقّبة للعورات والسّاكنة همومها.
تنبيه أخير.. (وجوهٌ كالمتاهة لا تُشْبهُني)
هذه الوجوه التي سأعرضها، تخصُّني، رغم أنّها لا تشبهني، لا أتنَكّر لها، هي ليست وجوهاً لأُناس أعرفهم أو أُنكر معرفتهم، هي وجوهي مهما تعدّدت، تحملني وأحملها، تواجِهُني وأُواجِهُها، لكنّنا نعرف بعضنا عزَّ المعرفة. ليستْ مَسْخاً، ولكنّها حقيقية رغم تعدّدها؛ فأنا هنا، لا أقصد مَسْخَ «كافكا» حين تحدّث عن انمساخ «سامسا» بطل قصته، ولكنه هنا، المسخ الذي يعجُّ به الواقع المعيش، من خداع وكذب وظلم وإقصاء. قد يكون لك، أيّها الدّاخل إلى هذه المتاهة، من هذه الوجوه نصيب؛ لذا فالرّجاء، الدّخول إليها بحذر شديد.
الوجوهُ المتاهة..
1ـ وجهٌ تائه..
استيقظت هذا الصباح ولم أجد وجهي، تِهْتُ أبحث عنهُ.. وجدته هو الآخر تائها يبحث عنّي. حملته بين يدي، نظرت إليه مليا وقلت له: ماذا أصابك، أين كنت؟ لمْ يُحر جواباً.
أعدته إلى وجهي وأنا أشك في أنه لي.
2ـ وجهٌ لقناع..
قلتُ: ما هذا التجهّم الذي يغطي محياك يا وجهي؟
قال وجهي غاضبا: سئمت هذه الملامح التي أحملها رغما عني مُذْ عرفتك؟
قلت وأنا أمد له قناعا: خذ، غيّرْ ملامحك واسترِحْ..
3ـ وجهٌ للبيع..
حملتُ وجهي بين يديّ، تهتُ به في الشوارع والأسواق أريدُ بَيْعه... لم يلتفت إليَّ أحد ولم يساومني أحد... نظرت إلى وجهي وقد سالت من عينيه دمْعة..
4ـ من دون وجه
كعادتي كل صباح، فتحت الدولاب لأختار وجهاً لهذا اليوم ... احترت، كلّ الوجوه جربتها، تعبت منها. قرّرت أن أخرج هذا اليوم من دون وجه.
5ـ وجه يضحك..
نظرتُ مليّاً إلى وجهي، نظر إليّ مليّاً وقال: من أنت؟
قلتُ: أنتَ، أنا أنتَ. نظر إليَّ مليّاً، ثم انفجر ضاحكاً.
6ـ انتهت صلاحيته..
اعترض طريقي وجهي الذي ألفتُ أن أحمله بين يديَّ كلّ صباح، وصاح في وجهي: ألم تلاحظ أن صلاحيتك انتهت...؟
نظرت إليه مستغرباً وقلت: هذا يعني أن صلاحيتنا انتهت نحن الاثنين. فغر وجهي فاه حين أدرك الحقيقة، غير أنه ابتسم ابتسامةً عرفت مغزاها حين وضعت يدي على قناع قديم مهترئ، كنت عند الحاجة، أستعمله.
7ـ وجهٌ بالتّقسيط..
عرضتُ وجهي للبيْع مرّة، وبالتّقسيط..
لا أحد ساومني..
عدتُ به كسلعة بارَتْ.
8ـ وجهٌ وقناع..
قال القناع: سئمتُ من هذه الصورة التي أنا عليها، ما تَغيَّرَتْ منذ خُلِقْتُ.. قال الوجه: اصنع ما أصنع، البسْ لكل مقام وجهاً، أقصد قناعاً. رد القناع مندهشا: إذاً أنافق!
9ـ وجه لا يشبهني..
كعادتي كل صباح أقف أمام المرآة أُصفِّفُ شعري فارتسمت على وجهي علامة استفهام كبيرة غطَّت مساحة المرآة.
لمن هذا الوجه؟
حملقْتُ جيدا في الوجه الذي أمامي، تأكدتُ أنّه ليس وجهي، هذا الذي يُطِلُّ عليَّ من الجهة الأخرى من المرآة..
لفتت نظري أدوات التجميل التي تستعملها زوجتي.. لِمَ لا أستعمل بعض المساحيق لأعيد إلى وجهي وجهه الذي ألِفَهُ النّاس..
10ـ عملية تجميل..
قصدتُ عيادة طبيب التجميل وكُلّي عزمٌ على تغيير وجهي الذي أحمله رغماً عنّي..
هذا الأنف الأفطس، وهذه الزبيبة التي تحْتلُّ نصف الوجه، وهذان الخدان غير المتناسقين.. هكذا كنتُ أظُنّ إذا نظرتُ في المرآة. أما إذا نظر إليَّ أحدٌ أشيحُ بوجهي ظنّاً مني أنه يتفحص وجهاً غريباً من كوكب غريب.
جلستُ أمام الطبيب وكلّي أملٌ في أن يصلح هذه التشوهات.
ـ وجهك لا يحتاج إلى تعديل أو تجميل...
ـ انظر جيدا يا دكتور إلى هذا الوجه.. سأدفع لك الثمن الذي تتطلبه العملية.
ـ هذا الوجه يناسبك جيداً، قال الطبيب.
خرجتُ منْطرداً أجوب ممرّات غابة قريبة، عند بركة ماءٍ، خلّفتها أمطارٌ مفاجئة، نظرتُ فيها، فرأيتُ وجهاً، استحسنتُ تفاصيله وقسماته، وهمست حتى لا يسمعني وجهي وأنا أردّد قول الجاحظ، «قبح الله هذا الوجه وقُبّح حامله».
11ـ نهايةُ المتاهة..
لم أجد وجها يلائمُني، ولن تجدوا وجوهاً تلائمكم، فمتى يحين الوقت ونكفّ عن تسوّل وجوهٍ غير التي نحملها!؟ ...
***
عبد الهادي عبد المطّلب
المغرب/الدار البيضاء في: 14 يونيو/حزيران 2025