أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: صورةُ المُثقّف

كان مؤمنًا شديدَ الايمان بأن الفكرة ينبغي أن تتحوّل إلى فعلٍ نُمارسه على أرض الواقع، وإلا فقدت الفكرة وجودها وكينونتها، وتحوّلت إلى ثرثرة تشبه نقيق الضفادع، لا تغني ولا تحمي من جوع، لهذا رفع لواء الأفكار اليسارية التقدمية وطبّقها في واقعه غير عابئ بما إذا كانت الظروف مواتية أو غير مواتية، وحاملًا الُسلم بالعرض، وهو ما جعله يُعتقل حينًا وتُفرض عليه الإقامة الجبرية حبنًا آخر، بل هو ما كاد يودي بحياته شنقًا..، أما في الحالة الأولى وما يتعلّق بالإقامة الجبرية، فقد كان ذلك، عندما فرضت عليه السلطات الإسرائيلية، في الستينيات وما بعدها بقليل، الإقامة الجبرية التي تقضي بلزومه بيته جُلّ ساعات النهار، لا يُغادره إلا ضمن منطقة محددة وفي ساعات قليلة، وأما فيما يتعلّق باعتقاله واقترابه من حبل المشنقة، فقد كان ذلك عندما تحمّس للبقاء الجمعي في البلاد بعد قيام إسرائيل، وآمن بما آمن به حزبه الشيوعي، بقرار تقسيم البلاد، حينها اتهمه جيشُ الإنقاذ بالخيانة العُظمى، وكاد يقوده إلى منصة الشنق، غير أن انسحاب هذا الجيش أدى لإنقاذه ليواصل بالتالي رحلته مع النضال بالقول والفعل أيضًا. لقد جسّد بهذا كلّه صورة لمثقف من بلادي، حمل سلمه على كتفه، كما فعل دعبل الخزاعي، ومضى في طريق الحقّ الذي استرشد بنوره وامن بهديه.
ربطتني بالكاتب المناضل، الشخصية الوطنية المرموقة حنا إبراهيم الياس، فيما بعد حنا إبراهيم، (1927-15-10-2020)، علاقة ودّية وأدبية منذ سنوات السبعينيات الأولى حتى نهايات حياته، وقد جمعتنا معًا العديد من الأماكن والمواقع، الامسيات والندوات، السياسية والأدبية، وكنت أرى إليه بقامته المُنتصبة، ووقفته العسكرية، شخصية مميزة قولًا وفعًلا، وكان أكثر ما لفتني فيه إيمانه العميق يما يقوله ويفعله، فهو يدعو إلى الحرية، العدل والمساوة، لهذا يرفض حين يُلحُّ أهالي قريته أن يواصل رئاسته لمجلس بلدته البعنة، مرة أخرى بالتزكية، بعد أن فاز بذلك المنصب في انتخابات عادية مُمثّلًا لحزبه الشيوعي، وها هو يوافق على تزويج ابنته لمن احبته وأرادته، رغم أنه من طائفة أخرى، بل ها هو يقنع قريبًا له بأن يفعل مثلما فعل هو، وطالما فاخر أمامي وأمام آخرين، بأنه حين ضاقت به سُبل العيش، خلال ثلاث عشرة سنة، من عام 1948 حتى 1951، عملَ في وُرش.. منها الزراعية ومنها الحجرية، نسبة للحجر، وقد كان يرفع رأسه معتزًّا، كما كان يقول، بأنه عمل حجًارا واتقن لغة الحجارة.
حنا إبراهيم يهذا كلّه وغيره كثير، جسد صورةً لمثقف مُناضل من طراز رفيع، وقد كان طوال الوقت مُستعدًا لدفع الثمن المطلوب لقاء مواقفه، ومما يُذكر في هذا السياق، أنه فُصل من حزبه الشيوعي عام 1989، على خلفية تصريحات تحذيرية وهادفة أطاقها في مهرجان جماهيري أقيم في عرابة البطوف، قبل فصله هذا بنصف عقد من الزمان، وحتى عندما انتقل فيما بعد، للانخراط في صفوق الحزب الديموقراطي العربي بقيادة عضو الكنيست، في حينها عبد الوهاب دراوشة، بقي مؤمنًا بالمبادئ الشيوعية، كما بقي مُصرًّا على أن تطبيق هذه المبادئ لم يتمّ كما يُفترض، وهو ما تبيّن فيما بعد أنه الحق والصدق، علمًا ان هذا التصريح أو مثله هو الذي أفضى إلى إقصائه مِن بين صفوف حزبه الشيوعي، وبإمكاني القول إنه بقي حتى يومه الأخير في الحياة مؤمنًا بمبادئه الشيوعية وفلسفتها الإنسانية.. فقد كنا معا.
إلى هذا كان حنا إبراهيم، يؤمن بأن الادب وسيلة وليس غاية، وسيلة لتثوير الجماهير وحضّها على التحرُّك والفعل، وقد أنتج وكتب في هذا الإطار كُلًا مِن: الشعر، القصة، الرواية، والسيرة الذاتية، إضافة الى المقالة السياسية الاجتماعية والأدبية. لقد أصدر حنا إبراهيم خلال عمره المديد، عاش 93 عامًا، أربعة عشر كتابًا توزّعت على الأنواع الأدبية المذكورة، غير أنه لم يحظَ إلا ببعض الاهتمامات البحثية الجامعية، فيما خلّفه مِن تُراث أدبي، لا سيّما في السيرة الذاتية التي أبلى فيها بلاءٍ حسنًا كما يقال، وقدّم ما يستحق العيش طويلًا. لذا أجد مِن واجبي وأنا أعيد ذكره إلى الاذهان، بعد حوالي الأربعة أعوام من رحيله، أن أقدم مدخلًا مُعتمًدا على رؤية خاصة ومتابعة حثيثة لإنتاجه الادبي، إنني أكتب هذا وأدعو في الوقت ذاته مَن يُمكنه ويود أن يقوم بإجراء دراسة أو اكثر حول هذا الكاتب الوطني الإنساني السياسي، إنصافًا وأثباتًا لإنتاج يستحق أن نلتفت إليه ونهتم به. من ناحيتي كما أسلفت، سأقدم هذه المدخل لانتاجه الادبي، في شتى مجالاته وانواعه الكتابية.
الشعر: كتب حنا إبراهيم في الشعر مجموعتين، حرص على أن يُضمّن عنوانيهما اسم المكان الذي عاش فيه وناضل منطلقًا منه وهو الشاغور وأهله، (انظر قائمة مؤلفاته في ذيل هذه المقالة)، وقد اتصف ما أنتجه حنا إبراهيم بأنه شعرٌ عموديٌّ كلاسيكي، ويدُل على أن صاحبه درس الاوزان الشعرية وأتقن استعمالها، كما أن القوافي جاءت في شعره مُنسابةً لا افتعال ولا إقسار، ما أضفى على قصيدته نغمة مُحبّبة، بيد أن هذه القصيدة اتصفت بأمرين، غير مُحببين لدي نقاد الادب والشعر خاصة، أحداهما تمثّل في قصيدة المُناسبة، التي تُكتب وتنتهي بانتهاء المناسبة، إلا إذا توفر لها شاعر متمكّن يُمكنه أن يرفعها إلى مستوى قوليّ رفيع، كما فعل المتنبي وأحمد شوقي والجواهري، والامر الآخر هو تلك التقريرية والمُباشرة التي يمجُّها الذوق الشعري الرفيع، وعادة ما تكون مُحبّبة لدي جمهور مستمعيها، الذي يعرف الشاعر مسبقًا أنه ينتظر ما يُحفّزه على الفعل وما يدفعه إلى المواجهة.
القصة: كتب حنا إبراهيم ثلاث مجموعات قصصية، وبإمكان مَن يطّلع على عناوينها (انظر ذيل هذه المقالة)، أن يشمّ فيها رائجة الازهار البرية وأن يرى إلى الغربة في الوطن، ورائحة الوطن أيضًا، فماذا يقولُ لنا هذا؟ انه يقول ويؤكد بصريح العبارة ما سبق وصرح به كاتب هذه القصص، وهو أنه أراد أن يكتب الادب المُجنِّد للناس، وأنه اعتبر الادب وسيلةً وليس غاية، هذا من ناحية أما من ناحية أخرى، فقد كتب حنا إبراهيم القصة الواقعية، لكن التابعة للفترة التي كُتبت فيها، ففي تلك الفترة كان العشرات مِنَ الكتّاب، في طليعتهم الكاتب السوري الشهير سعيد حورانية، صاحب مجموعة شتاء قاس آخر، يؤمنون بأن القصة الواقعية، ‘نما تنقل الواقع مُرفقًا بشيء مِن الرتوش، بمعنى أن الكاتب يُفترض به أن يلتزم بنقل الواقع نقلًا قريبًا من النقل الفوتوغرافي، وهو ما دفع بعض النقاد العرب إلى أن يُميّزوا بين الواقع اليومي المعيش وبين الواقع الفني، هائبين بالكتاب من واقعيي تلك الفترة، بأن يخلقوا الأجواء الفنيّة المبنيّة على رؤية خاصة ومتخيّلة للقصة. مرةً أخرى نُلاحظ أن كاتبنا لم يَحد عن رؤيته للأدب على اعتبار أنه وسيلة نضالية وليس غاية تُقصد لذاتها وتقدّم خدمةً تغييريه-مِن تغيير-، تهدف إلى خلق إنسان أكثر وعيًا وأكثر إنسانية لكن دون تقصُّد، وبتلقائية مَن يُسلّي ويفيد في نفس الوقت.
الرواية: لحنا إبراهيم ثلاث روايات، لم تحظَ للأسف، فيما نعلم بالطبع، بالاهتمام اللائق، في رواياته هذه، كما يُشتمّ من عناوينها أيضًا، يواصل كاتبُنا إيمانه الراسخ بكون الادب وسيلة وليس غاية، وممّا يُلاحظُ على رواياته هذه، أنها تقوم بنفس ما قامت به انتاجاته الشعرية والقصصية، لا سيّما فيما يتعلّق بفتح باب الامل، الذي لا بُدّ من فتحه كي يدخل النور المُنعش والمُنّور إلى البت وكي يُدبّ فيه الحركة والحياة والرغبة بالتالي في التحرك والتغيير. وبإمكاننا القول إن كاتبنا انتهج في كاتباته الروائية، الخلفيات الاجتماعية السياسية، التي عاشها مازجًا إياها برؤية متفائلة، تستمدّ كينونتها وقوّتها من المادية التاريخية التي آمنت بالإرادة الإنسانية والتغيير الحتمي.
السيرة الذاتية: كان عام 1996 عامًا مباركًا في حياة الكاتب حنا إبراهيم، فقد حالفه الحظّ مدعومًا بإرادة جبّارة عرفناها عن قُرب، وأنتج وكتب ونشر أيضًا في هذا العام الجزأين الأول والثاني من سيرته الذاتية، وبإمكان مَن ينظُر في عنوان الجزء الأول خاصة من هذه السيرة، مُلاحظة أن صاحبها قلب المثل او القول الاتهامي الُمكذِّب وهو "شاب تغرّب وشيخ ذهبت أجياله"، إلى مثل إنقاذي مُفادُه والحالةُ هذه، القول بأننا إنما نقرأ لشاب لم يتغرّب وبقي في بلاده، وهو ما يعني أننا إنما سنقرأ سيرةً حافلةً بالبوح في المشاعر والشفافية في القول، وأن كاتبها سيوافينا بكلّ ما لديه بصدق وعمق، قد يصلان حد الصدمة أولًا، والرفض لما حدث في ماضي صاحبها ثانيًا. لقد كتب حنا إبراهيم سيرةً ذاتية ارتقت بهِ وبإنتاجه إلى مستويات عليين، في الادب والكتابة الابداعية، مستوىً لا يقلّ أهمية وعمقا عمّا كتبه من سيرة ذاتية كلٌّ من: طه حسين في الأيام، وما كتبه جبرا إبراهيم جبرا في البئر الأولى وشارع الاميرات، بل ما كتبه كاتبنا الجميل الراحل حنا أبو حنا في سيرته الذاتية الموسومة بعنوان ظل الغيمة. لذا أهيب بدارسين مُجدّين ودور نشر مُهتمة أن تتعامل مع هذه السيرة التي تكفي لإدخال صاحبها في عُمق ديوان النثر الفلسطيني، وتخليده أيضًا.
***
ناجي ظاهر
من كتاب شخصيات في الذاكرة الماثل للطباعة.
.........................
مؤلفات حنا إبراهيم:
- صوت من الشاغور (شعر) 1981.
- نشيد للناس (شعر) 1992.
- صرخة في واد (مختارات من أشعاره) 2007.
- أزهار برية. (قصص)1972.
- ريحة الوطن. (قصص) 2979.
- الغربة في الوطن. (قصص) 1980.
- أزهار برية. (مجلد لمجموعاته القصصية) 2000.
- أوجاع البلاد المقدسة. (رواية) 1997.
- 1موسى الفلسطيني. (رواية) 1998.
- عصفورة من المغرب. (رواية).
- ذكريات شاب لم يتغرب. (سيرة ذاتية) 1996.
- شجرة المعرفة. (سيرة ذاتية) 1996.