أقلام ثقافية
محسن الأكرمين: صائد أشباح من الماضي

حين نرتاح للسفر بين الأزمنة، فإننا نُكسر حواجز كثيرة من ذات ذواتنا المنغلقة داخل تفكير علبة الصندوق، والمتطفلة على الحاضر بالتوجس والحيطة، وقد نصبح مثل صائدي الأشباح الليلية، ومتصيدي أحاجي الأعاجيب في تلك الغابة اليتيمة !!! من شر السفر بين الأزمنة، والذي لا زال يَلْطمني بقوة الحركة والفزع، حين أصبح الماضي يُمثل ثُقبا أسودا متحجرا، ويتجلى أمامي في مشيتي المتأنية بالخوف كالشبح الماكر المتخفي، وكلما اقتربت منه أكثر كنت أُحس بأنه يسحق روحي بكل فظاظة ومُتعة.
في يوم ما، قررت اللَّعب مع الماضي باختراقه عبر آلة العودة بين الأزمنة الخلفية. في الأول شدتني الفكرة ونشوة اللعبة علوا، وقُلت لأكسر كل الصور الورقية العالقة بذهني، وأرمي بها أرضا لكي تعمل على تجسير معرفة حاضري، والذي ينتسب للماضي أكثر من الحاضر والمسقبل. في تلك الفكرة كانت المخاطرة بينة، لأن أزمنة الماضي الحي، لازالت يمارس الرقابة على احتضار الروح بالتمام، وينتظر مني رميه بقسط من الرحمة والعفو، وفي كل خطوة لي بالتراجع نحو ساعات وأيام وسنين من الماضي البعيد بالعد التراكمي الكمي، كنت أفقد حاضري العقلاني، وأحس باليقين بأنه لم يولد بعد.
كانت تجربة شاقة في سفري بين الأزمنة المتحركة بالتموج، والتقلبات العمرية والأحداث، وقد شقت قلبي بالألم والوجع، وانفطرت دموعي غزارة من شدة رؤية حقيقة مسكوت عن ذكرها في ذاكرتي من الماضي، والتي كانت تُماثل المعرفة اليقينية. وجدت ذاتي منفصلة ومنقطعة عن التعامل مع واقع الحقيقة العقلانية، حيث بُدا رماني سفري الحدسي بين رقعة شطرنج الأزمنة المتنافرة، والتي زادت من استفحال أزمتي بالتعقيد لا بالحلول الممكنة.
أول خطوة في سفري عبر زمن الظل الخفي، وفي حجرة مفتوحة للعموم تُماثل أضرحة أولياء الله الصالحين، عثرت على شاهد أسماء قبور الفلاسفة القدماء والجدد، وقد كتب عليها: "الحجر الفلسفي يتحصن بتميمة وتعويذة ثورية، وكل من يقرؤها أو يلامسها يصاب بلعنة العقل واللاتعق !!!" أفزعتني الكتابة الذهبية البارزة من كل قبور فلاسفة العقل، إلا شاهد قبر الفيلسوف أفلاطون حين طفت على مرقده المتواري، قرأت في أطرافه العلوية :" ذكرني بأن فمي وقلمي الثرثار في الفلسفة ! وبيانات العقل والمنطق ! وكشف الحقيقة ! وتعلم إبداء الرأي ! وطرح السؤال ! لم يدمر المعرفة من بعدي عند البشرية التي لا تقرأ ... "
هروبي من السؤال أفزع المعلم سقراط رائد مذهب التفكير الأخلاقي، وكأني لا أعرف شيئا من التفكير النقدي. حينها رماني بتعليق مستفز للتحفيز، حتى أنِّي لم أُدرك مغزاه إلا بعد خروجي من زمن سفري بين الأزمنة، حيث نبهني بالقول: "لا تجديف في الفراغ، فأنت لا تعرف حتى من تكنْ؟ هروبك أمامي بالفوضى والغضب يصنفك من المشائين ... دع الذي يريد أن يحرِّك العالم، أن يحرِّك نفسه أوّلا... انظر باليقين في داخلك..." لحظتها، كان كل السمك يتعفن في رأسي بوضوح وتمييز، وباتت الحقيقة تسير بالولاء من الماضي وتعمل على بناء وخلق سلسة تواصل طيعة مع الحاضر والمستقبل.
في قلب سفري بين الأزمنة تذكرت رواية "دفنا الماضي" للمغربي عبد الكريم غلاب، حينها توجست خيرا في الحاضر والمستقبل، وقُدرة على إدارة الصراع الثنائي العالق بين الحاضر والماضي. أدركت أن سفري بين الأزمنة، لم يكن نهارا مستنيرا بالعقلانية والحقيقة التناظرية، بل كان بوشاح الليل الحالك الذي يُغيب الحقيقة، وكأني "أبو الليل" خرج يتصيد ضحاياه والتي بالطبع هي ذاتي لا غيري.
آه في سفري الأعرج !!! لم أكن أرغب البتة في السيطرة المطلقة على معرفة الماضي بالاطلاع وكشف المستورات، بل كنت أبتغي فقط الحصول على تعويذة من الحقيقة العقلية لتبطل كل تعويذات الحاضر العالقة في التفاهة والسخافة. كنت أبحث عن العيش تحت الضوء المستنير بعيدا عن الظلمة وظل الأشباح. وفي مشارف رجوعي نحو الحاضر، كان القمر المستنير ينير ظلي كليا، والذي بدا يسكن من خلفي ويبدو حتى منفطر الروح بالسحق ...
***
محسن الأكرمين