أقلام ثقافية
ربى رباعي: رحلة في فضاءات وجماليات الدلالة الرمزية وتأويلها في فكر

جبران خليل جبران
مقدمة: يمثل جبران خليل جبران أحد أبرز رموز الفكر والأدب في العالم العربي الحديث، وقد شكّل برؤيته العميقة وفلسفته الإنسانية ظاهرة أدبية تجاوزت حدود الزمان والمكان. يتسم نتاجه الأدبي بتكثيف الرموز والدلالات التي تنفتح على تأويلات متعددة، وتنهل من ينابيع التصوف، والمسيحية الشرقية، والفكر الفلسفي، والرومانسي الغربي. وفي قلب هذا العالم المتشابك، تتجلّى الرمزية بوصفها أداة جمالية وفكرية، يتوسل بها جبران لإيصال رسائله الروحية والاجتماعية.
أولًا: مفهوم الرمزية عند جبران
الرمزية عند جبران ليست مجرد تقنية بلاغية أو زخرف لغوي، بل هي بنية فكرية وجمالية عميقة تعبّر عن رؤيته للعالم والوجود. فالرمز عنده يحمل طاقة دلالية تتجاوز ظاهر النص، ليفتح أفقًا تأويليًا يتفاعل فيه القارئ مع النص من موقع المشاركة الروحية لا الاستقبال السطحي.
ومن أبرز خصائص الرمزية الجبرانية:
التجريد والتكثيف: فالرمز يحمل دلالات متراكبة تتطلب التأمل العميق.
الازدواجية في المعنى: بين الدلالة الظاهرة والباطنة.
الامتزاج بين الروحي والحسي: حيث تتداخل العواطف بالمقدّس، والجمال بالحقيقة.
ثانيًا: فضاءات الرمزية في نصوص جبران
1. الطبيعة كرمز
الطبيعة لدى جبران ليست مجرد خلفية للأحداث، بل كائن حي يحمل معانيَ رمزية متعددة:
الشجرة ترمز إلى الحياة والخلود.
الريح تعبر عن التغيير والتحرر.
الماء يمثل النقاء والتجدد.
يقول في "النبي":
"وكيف تسيرون إلا إذا انصهرتكم الريح التي تهب شمالًا وجنوبًا، وتسلخ عنكم أثوابكم البالية؟"
2. المرأة كرمز
تحتل المرأة مكانة محورية في فكر جبران، وتُمثّل غالبًا رمزًا للروح أو للحكمة أو للجمال الإلهي. "سلمى كرامة" في الأجنحة المتكسرة ليست فقط معشوقة، بل رمز للمرأة-الوطن، والمرأة-الحرية، والمرأة-القدَر.
3. الصورة المسيحية الصوفية
استخدم جبران الكثير من الصور الدينية المسيحية، ولكن بروح صوفية، تتجاوز الشكل الطقسي إلى جوهر روحي عميق. المسيح في نصوصه رمز للمُخلّص، وللتضحية الكونية، وللثائر على الظلم الاجتماعي والروحي.
في كتابه يسوع ابن الإنسان، لا يقدّم سيرة تقليدية للمسيح، بل يراه ككائن رمزي يتجاوز الزمان والمكان، يتجسد في كل من يسعى للحقيقة.
ثالثًا: جماليات التأويل في النص الرمزي الجبراني
1. تعددية القراءة
بسبب انفتاح الرمز، لا يقدّم جبران معنى واحدًا أو مباشرًا، بل يضع القارئ أمام شبكة من المعاني الممكنة، ويدعوه للمشاركة في خلق المعنى. فكل قارئ يُنتج تأويلًا خاصًا به، متأثرًا بخبرته وثقافته.
2. اللغة الشعرية والإيقاع الداخلي
نصوص جبران مشبعة بالبعد الموسيقي، مما يعزز البعد الرمزي للنص. الإيقاع هنا ليس مجرد تجميل، بل عنصر من عناصر الدلالة.
3. الغموض البنّاء
لا يهدف الغموض عند جبران إلى إرباك القارئ، بل إلى استفزازه فكريًا وروحيًا، ليتجاوز سطح النص إلى أعماقه.
رابعًا: تأويلات ممكنة لبعض الرموز الجبرانية
الرمز المعنى الظاهري التأويل الرمزي
النار العذاب، الدمار التطهير الروحي، الشغف
الجبل الطبيعة المرتفعة السمو، القرب من الله
الطفل البراءة النقاء الأول، الحقيقة الأصلية
الرحيل الفراق، الموت التحول، الخلاص
خاتمة:
في فضاء جبران خليل جبران الرمزي، لا يبقى القارئ متلقيًا سلبيًا، بل يتحول إلى متأوّل، إلى كائن يبحث عن المعنى بين السطور، وفي ظلال الكلمات. إن جمالية الرمز عند جبران تكمن في قدرته على تجاوز المألوف، وفتح نوافذ للروح، تُطل منها على المطلق واللانهائي. وهكذا، فإن قراءة جبران هي دائمًا رحلة لا إلى الخارج، بل إلى الأعماق.
***
ربى رباعي - الاردن