أقلام ثقافية

سُوف عبيد: حوريّة الشعراء

في المعجم المحيط الحُورِيَّةُ: فتاة أسطوريّة بالغة الحُسن تتراءى في البحار والأنهار والغابات ومن دلالاتها أيضا المرأة الحسناء ساحرةُ الجمال كأنها حوريّة من حوريّات الجنّ

وفي المعجم الوسيط كذلك (الحُوريَّةُ) فتاةٌ أسطوريةٌ تتراءى في البحار والأنهار والغابات

وهذا المعنى ممّا ورد في - لسان العرب - الذي فصّل الجذر تفصيلا إلى أن بلغ قوله أن الحواريات من النساء: النقيّات الألوان والجلود لبياضهن ومنه قولهم: اِمرأَة حَوارِيَّةٌ إِذا كانت بيضاء ومنه قولهم أيضا ـ الحواريّ: الدّقيق الأبيض، وهو لُباب الدّقيق وهو أجوده وأخلصه وهذه الكلمة الفصيحة نسمعها في اللغة اليومية التونسية حيث وردت في أغنية شعبية انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية

ـ أمَانْ أمانْ يا لْمانِي * سافرْ عَلَيَّ وخَلّاني

إلى أن تقول ـ دَوِّر دوّرْ خُبز سْخُون وكعك محوّر ـ

فما أبلغ لغتنا التونسية الأصيلة التي يتضمن معجمها كثيرا من الكلام العربي الفصيح

وقد ورد في المعاجم العامة أنّ حورياتِ البحر أو عرائس البحر أو خَيْلان أو اِبنة البحر أو اِبنة الماء أو ـ عروسة البحر ـ في الكلام اليومي هي حوريات أسطورية خيالية تسكن في البحار والبحيرات والأنهار وتجمع بين صفات البشر وخصائص الأسماك، فالقسم العلويّ - وهو القسم البشري - يتمتع بكامل صفات البشر العلوية من الرأس إلى المنتصف بينما القسم السفلي - وهو القسم السّمكي - يتمتع بجسم سمكي من المنتصف إلى الذيل ويوجد منها الذكر والأنثى وحوريات البحر عادة جميلات وساحرات ولهن حكايات عجيبة عديدة يتناقلها الناس جيلا بعد جيل وقد ذُكرن في الآداب القديمة لدى شعوب بابل والهند واليونان وحتى الرّومان فقد وجدنا ذكر الحوريات على نقيشة رومانية في الحوض الكبير بمدينة قفصة التونسية هذا نصها بالعربية

مُقدّس لنبتون والحوريات

غنايوس يونيوس ابن غنايوس من قبيلة بابيريا

بنى قناة المياه والينبوع على نفقته الخاصة

وأهداه كهِبَة ممنوحة

- 2 -

لم تخلُ قصصُ ألفِ ليلة وليلة من ذِكر الحوريات أيضا ففي الليلة السادسة والثمانين بعد الستمائة وما تلاها من ليال ورد فيها ذِكرُ حورية البحر ومنها:

- بلغني أيها الملك السعيد، أن جُلّنار البحرية لما سألها الملك شهرمان حكت له قصتها من أولها إلى آخرها، فلما سمع كلامها شكرها وقبّلها بين عينيها وقال لها

ـ والله يا سيدتي ونور عيني إني لا أقدر على فراقك ساعة واحدة وإن فارقتني مُتُّ من ساعتي فكيف يكون الحال ؟ فقالت: يا سيدي قد قرب أوان ولادتي ولابد من حضور أهلي لأجل أن يُباشروني لأن نساء البرّ لا يعرفن طريقة ولادة بنات البحر، وبنات البحر لا يعرفن طريقة ولادة بنات البرّ فإذا حضر أهلي أنقلب معهم وينقلبون معي، فقال لها الملك: كيف يمشون في البحر ؟ فقالت: إننا نمشي في البحر كما أنتم تمشون في البرّ ببركة الأسماء المكتوبة على خاتم سليمان بن داود عليه السلام، ولكن أيها الملك إذا جاء أهلي وإخوتي فإني أعلمهم أنك اِشتريتني بمالك وفعلت معي الجميل والإحسان فينبغي أن تُصدق كلامي عندهم ويشاهدون حالك بعيونهم ويعلمون أنك ملك ابنُ ملك فعند ذلك قال الملك: يا سيدتي اِفعلي ما بدا لك ممّا تحبين فإني مُطيع لك في جميع ما تفعلينه فقالت الجارية: اعلم يا ملك الزمان أننا نسير في البحر وعيوننا مفتوحة وننظر ما فيه وننظر الشمسَ والقمر والنجوم والسماء كأننا على وجه الأرض ولا يضرنا ذلك واعلمْ أيضاً أن في البحر طوائفَ كثيرةً وأشكالاً مختلفة من سائر الأجناس التي في البر، واعلم أيضاً أن جميع ما في البرّ بالنسبة لما في البحر شيء قليل جداً، فتعجب الملك من كلامها ثم إن الجارية أخرجت من كتفها قطعتين من العود القُماري، وأخذت منه جزءًا وأوقدت مِجمرة النار وألقت ذلك الجزء فيها وصفّرت صَفرة عظيمة وجعلت تتكلم بكلام لا يفهمه أحد فطلع دخان عظيم والملك ينظر، ثم قالت للملك: يا مولاي قم واِختف في مَخدع حتى أريك أخي وأمي وأهلي من حيث لا يَرونك فإني أريد أن أحضرهم وتنظر في هذا المكان في هذا الوقت فقام الملك من وقته وساعته ودخل مخدعاً وصار ينظر ما تفعل، فصارت تُبخّر وتُعزم إلى أن َأزبد البحر واِضطرب وخرج منه شاب مليح الصورة بهيّ المنظر كأنه البدر في تمامه بجبين أزهر وخدّ أجمر وشَعر كأنه الدرّ والجوهر، وهو أشبه بأخته ولسانُ الحال في حقه يُنشد هذين البيتين

البدر يكمُل كل شهـر مـرةً

وجَمال وجهكِ كل يوم يكمُلُ

وحُلوله في قلب بُرج واحـد

ولكِ القلوب جميعُهن المَنزلُ

ثم خرجت من البحر عجوز شمطاء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح

- 3 -

وقد اِستلهم في العصر الحديث بعضُ الشعراء العرب حورية البحر وجعلوها رمزًا للحسن والعشق مثل الشاعر مصطفى خريف في قصيدة ـ حُورية الموج ـ التي يستهلها بقوله

شَفّ صدرُ البحر عن سرّ الجـلال

وطـــفـــت فـــيـــه الـــلآلـــي

فوق موج فاض من سحر الجمال

فــــــاق تــصــويــر الــخــيــال

جــال فـــي حـســن وإشـــراق

مُستجـيـشًـا مــثــل أشــواقــي

حيـن أكسوهـا بديعًـا مـن بيـانـي

هل على صدرك فاضت موجتـان

بـــالـــهـــوى تــرتــعــشـــان؟

ونجد ـ الحورية ـ كذلك لدى للشّاعر بدر شاكر السيّاب ضمن قصيدة ـ حوريّة النهر ـ التي يقول في نهايتها

رأى - ويح عينيه - حُورية * فجُنّ بها ساعة ثم راح

فَقدْ يُخبر النجمُ عنه الرعاة * فيَبكون حُزنا و تبكي البطاح

و مات الشّقيّ الحزين فعادت * تُكفنّه بالشّراع الرياح

فقصيدة مصطفى خريف تبدأ بمنظر شامل للبحر الذي تلوح منه حورية جذلى بجمالها فينبري الشاعر لوصف ملامح حُسنها وهو في حالة اِنسجام معها لكأنهما يرقصان على نغمات سنفونية رائقة وتنتهي القصيدة بتمام اللقاء عند الوصال فحركة القصيدة تسير في تنامٍ وتصاعد حتى تبلغ أوج الاِنصهار عند قوله

واِرتمينـا فـي اِنقـبـاض واِمـتـدادِ واِمتزاج واِتّحادِ

وهـي تـنـزُو باِبـتهاج وتُـنادي فـيُلبّيها فـؤادي:

يـا حبيـبـي أنـت لـي وحدي

فاقتـربْ واُشْمُـمْ شــذى نـَهدي

أمّا قصيدة بدر شاكر السياب ـ حُورية النهر ـ فإن ظلال الرومنطيقية تبدو وارفة عليها في جميع أبياتها منذ المطلع

نفوسٌ مُعذبه هائمة * تَخَبّطُ في الظلمة القاتمة

أجَدَّ لها الليلُ أحزانَها * و تَذكار أيامِها الباسمة

فالحزن والكآبة باديان في القصيدة لذلك كان إيقاع الرتابة الثقيل قد حطّ بكلكله على الأبيات التي اِنساقت ضمن مسار تنازلي إلى الاِنحدار والتلاشي في قوله

ومات الشقيّ الحزين فعادت * تكفنه بالشّراع الرياح

ذلك هو البيت الأخير من القصيدة موت وكفن وتعبير عن مأساة الفتى الباحث عن الخلاص لدى حورية النهر التي حسب أنّ النجاة والخلاص على يديها ولكن مصيره المحتوم كان هو الغالب على أمانيه وأحلامه لذلك تبدو حورية بدر شاكر السياب مثل السّراب الذي لا يُشفي من غليل الآمال على عكس حورية مصطفى خريف التي شَفته من شوق الوصال.

***

 سُوف عبيد ـ تونس

في المثقف اليوم