أقلام فكرية

علي عمرون: بين حرية الفكر وعبودية التوقعات

الفلسفة ضحية نظام تعليمي يكرس السذاجة

فرش إشكالي: يجسِّد تعليم الفلسفة في الواقع التربوي المعاصر عندنا في الجزائر مفارقةً وجوديةً قاسيةً؛ فهو من ناحيةٍ يُقدَّم بوصفه مشروعًا تحرُّريًّا يتبنى المقاربةَ بالكفاءات كآليةٍ لتحرير العقل، ومن ناحيةٍ أخرى يُختَبر إدراكُ الطلاب لهذه الكفاءات عبر آلياتٍ تقييديةٍ تُحيلُ الفكرَ الفلسفيَّ إلى مجرَّدِ استظهارٍ لإجاباتٍ جاهزةٍ، تُروَّجُ في فضاءات الدروس الخصوصية كسلعٍ معرفيةٍ. هذا التناقضُ الجوهريُّ بين النموذج التحرري للفلسفة (كنقدٍ وتشكيكٍ وتحريرٍ) والممارسة الواقعية (كتلقينٍ واتباعٍ لنماذجَ مُعلَّبةٍ) لا يكشفُ فقط عن اغترابِ الفلسفة عن غاياتها، بل يُعرِّي أزمةً أخلاقيةً في البنية التعليمية، حيثُ يتحوَّلُ المعلمُ من حاملٍ لرسالةِ التنوير إلى وسيطٍ في سوقِ "سمسرةِ المعرفة"، يُنتجُ طلَّابًا مُطيعينَ لا عقول فلسفية تتساءل.

فكيف لدرسٍ يُفترضُ أن يكونَ حقلَ تفكيكٍ للسلطاتِ أن يتحوَّلَ هو ذاتُه إلى سلطةٍ مطلقةٍ، تُفرضُ عبرَ خطابٍ تجاريٍ يُعيدُ إنتاجَ السذاجةِ الفكرية؟ هذه الورقةُ تحللُ هذا الانزياحَ من الفلسفةِ كممارسةٍ حرةٍ تُعلي سؤالَ الحقيقةِ، إلى منتجٍ استهلاكيٍّ يُختزلُ في عملياتِ تداولٍ ربحيةٍ، مُستكشفةً تداعياتِ تحوُّلِ المعرفةِ إلى كسب مادي في سياقِ الليبراليةِ التعليميةِ الجديدة.

في "المقدمة" (الفصل السابع والثلاثون: "وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته")، ينتقد ابن خلدون ظاهرةَ انحراف التعليم عن غاياته المعرفية، ويُسلط الضوء على عدة إشكاليات تتعلق بفساد المنهج التعليمي وسوء ممارسات بعض المعلمين. ومنها:

1. ظاهرة الارتزاق بالعلم: يحذر ابن خلدون من فئة "المتطفلين على العلوم" الذين يحوِّلون التعليم إلى وسيلةٍ للكسب المادي، مما يؤدي إلى تدهور قيمة المعرفة وتحويلها إلى مجرد بضاعة. ويؤكد أن هذا الانزياح يُفقد العلمَ جوهرَه الأصلي:" إذا اتُّخِذ العلم بضاعةً، فسدت الفلسفة وخَملتْ شريعةُ الحكمة." وهذا القول يشير إلى أن تسليع العلم يُفقد الفلسفةَ قيمتها النقدية، ويُحيلها إلى نشاطٍ آليٍ خالٍ من العمق.

2. إشكالية تحريف المعرفة وسوء المنهج: ينتقد ابن خلدون بعض المعلمين الذين يقدمون المعرفةَ بشكلٍ سطحيٍ لجذب الطلاب، بدلًا من بناء ملكة الفهم النقدي. ويوضح أنهم:

"يُحْضِرُون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها... ويخلطون عليه بما يُلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعدَّ لفهمها."

وهذه المغالطات تُربك المتعلم وتعيق تكوين "ملكة النقد"، أي القدرة على التصرف في العلم بنقدٍ وإبداع.

3. أزمة انقطاع السند التعليمي وضعف تكوين الأستاذ: يشير ابن خلدون إلى أن انهيار المنظومة التعليمية في المغرب (بعد سقوط مراكز العلم في قرطبة والقيروان) أدى إلى ضعف الملكة العلمية لدى الطلاب، حيث أصبح التعليم يعتمد على الحفظ دون الفهم أو المناظرة:

"فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتًا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة."

مما نتج عنه قصورٌ في القدرة على النقاش والتعليم، إذ لم يعد الطلاب قادرين على توظيف المعرفة توظيفًا نقديًا.

في المسار التاريخي للفلسفة اليونانية، يبرز سقراط في المحاورات الأفلاطونية (وخاصة في "بروتاغوراس" و"جورجياس") كنموذج للفيلسوف الذي يقف بالمرصاد لظاهرة تسليع الحكمة. عبر منهجه التوليدي (المايوتيكي) وتهكمه السقراطي، يكشف لنا كيف حول السوفسطائيون المشروع الفلسفي من بحث عن الحقيقة إلى مجرد "تقنية بلاغية" تهدف إلى تحقيق المكاسب المادية. هذا التحويل الجوهري للفلسفة من مسعى وجودي-معرفي إلى مهارة نفعية، يشكل في جوهره اغتراباً عن المهمة الفلسفية الأصلية.

في هذا السياق، تظهر المفارقة السقراطية في موقف كاليكليس (في محاورة جورجياس) الذي يسخر من سقراط لرفضه قبول الأجر على تعليمه، بينما يتباهى جورجياس بثرواته التي جمعها من بيع المعرفة. هذه الثنائية تفضح التناقض الجوهري بين الفلسفة الحقيقية كنشاط تحرري والسفسطة كصناعة استهلاكية. في محاورة "هيبياس الأكبر"، يصل هذا التناقض إلى ذروته عندما يتباهى هيبياس بأنه "كسب في رحلة واحدة إلى صقلية أكثر من 150 مينا" وهو مبلغ يعادل في قيمته الحالية راتب عام كامل لخمسين عاملاً.

رد فعل سقراط على هذا النموذج من التبضيع المعرفي كان ثورياً في عصره: "أنا لا أبيع الحكمة، لأني لا أمتلكها أصلاً". هذه العبارة التي تبدو تواضعاً تحتوي في طياتها نقداً جذرياً لادعاءات السوفسطائيين بامتلاكهم للمعارف الجاهزة. تعليقه الساخر "لو كانت الحكمة تُباع كالسمك، لكان السوق مليئاً بالحكماء!" يكشف عن التناقض الأساسي بين طبيعة الحكمة كمسعى فردي وبين محاولة توحيدها وتسويقها.

اليوم، نجد إعادة إنتاج كاريكاتورية لهذا النموذج السوفسطائي في مشهدنا التعليمي المعاصر، حيث يتجلى في ثلاث شخصيات أساسية:

1. جورجياس المعاصر: يتمثل في أولئك الأساتذة الذين يحولون العمل الأكاديمي إلى "صناعة معرفية" عبر تقديم "دورات المقالات الجاهزة" بمقابل مادي باهظ، محولين الفلسفة من حوار عقلي إلى "وجبات سريعة" فكرية تهدف إلى الربح المادي.

2. بروتاغوراس الرقمي: يظهر في شكل "الخبراء" الذين يختزلون العمل الفلسفي إلى محتوى رقمي سريع الاستهلاك، معتمدين على منطق الإغراء والإبهار بدلاً من التحليل النقدي، محولين السؤال الفلسفي من "ما الحقيقة؟" إلى "كيف تحصل على العلامة الكاملة؟".

3. كاليكليس العولمي: يتمثل في الأستاذ المتعالي الذي يسخر من زملائه الملتزمين بالبحث الجاد، معتبراً إياهم فاشلين لأنهم لم يخضعوا لمنطق السوق، فيكرس بذلك ثنائية زائفة بين "النجاح" المادي والقيمة الفكرية الحقيقية.

هذه التجليات المعاصرة تطرح إشكالية عميقة حول علاقة المعرفة بالسلطة والمال، وتستدعي إعادة قراءة نقد سقراط في ضوء تحولات العصر الرقمي والرأسمالية المعرفية. فكما كان سقراط ينظر إلى السوفسطائيين كأعداء للحكمة الحقيقية، يمكننا اليوم أن ننظر إلى هذه النماذج المعاصرة كتعبير عن أزمة أعمق في علاقة المعرفة بالسلطة في عصرنا.

الفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت": في فصل الحديث عن الكهنة يهاجم "مُعلّمي الفضيلة" الذين يحولون الفكر إلى دوجما (عقيدة جامدة) لأغراض نفعية. قائلا: " لقد أراد هؤلاء الكهنة أن يعيشوا كأشلاء أموات؛ فسربلوا جثثهم بالسواد فإذا هم ألقوا مواعظهم انتشرت منها رائحة اللحود. إن من يجاور هؤلاء الناس فكأنما هو ساكن على ضفة الأنهار السوداء حيث لا يسمع إلا نقيق الضفادع الحزين" يهاجم نيتشه وينتقد أولئك الذين "يدّعون الفضيلة" لكنهم في الحقيقة يخدمون مصالحهم ينطبق هذا على الأساتذة الذين يُكررون نفس المقالات منذ 20 عامًا او أكثر. يُحوّلون التعليم إلى مصنع شهادات لتحقيق أرباح أو سمعة وينتقد النظرة السياسية الضيقة التي تشتغل على تصميم المناهج لـغسل الأدمغة بدلًا من تنويرها " جميعكم أيها الحكماء المتمتعون بالشهرة قد خدمتم الشعب وما يؤمن به منَّ خرافات، ولو أنكم خدمتم الحقيقة لما كرمكم أحد، ومن أجل هذا احتمل الشعب شكوككم في بيانكم المنمق؛ لأنها كانت السبيل الملتوي الذي يقودكم إليه، وهكذا ً يوجد السيد لنفسه عبيدا يلهو بضلالهم الصاخب، وما الانسان الذي يكرهه الشعب كره الكلاب للذئب الا صاحب الفكر الحر عدو القيود الذي لا يتعبَّد، ولا يلذ له الا ارتياد الغاب "والاسوء هنا ليس الجهل، بل وهم المعرفة الذي تخلقه الأنظمة التعليمية التي :

* تُكرّس الحفظ عن ظهر قلب بدلًا من التفكير النقدي.

* تُعاقب الأسئلة الجريئة وتُكافئ الطاعة العمياء.

* برامج تعليمية تُنتج أفرادًا مُطيعين للنظام (السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي) بدلًا من مُفكّرين أحرار.

تشريح الأزمة: التمزق الثقافي وأثره على الكتابة الفلسفية

أ. الصراع اللغوي:

- التلميذ يتعامل مع لغة مزدوجة:

- لغة التدريس في الثانوية يفترض انها (عقلانية، مجردة، نسقية).

- لغة الحياة اليومية وأحيانا حتى الدروس الخصوصية (عامية، تهكمية، سطحية).

- النتيجة: كتابة هجينة تفتقد التماسك المنطقي وفقيرة من حيث المبنى والمعنى.

ب. صدام المنطق:

- منطق تدريس الفلسفة وفق المقاربة بالكفاءات يتطلب الشعور بوجود مشكلة ومن ثمة كفاءة التحليل وامتلاك ملكة النقد ورصيدا معرفيا تراكميًا يوظف قصد محاولة حلها ( خلاف ذلك التلميذ يعيش في عالم افتراضي لا يشعر بوجود مشكلة ولا يندهش ولايتساءل يؤمن بمنطق القفز كما هو الحال في "ثقافة التيك توك.

ج. أزمة الزمن:

- الفلسفة تُعلّمنا أن الماضي حي نستعيده من خلاله الذاكرة لتوظيفه في بناء استجابة تكيفية ناجحة مع الواقع وان الحاضر ندركه ونتعامل معه بذكاء وبصيرة وان المستقبل نؤسس له، بينما التلميذ يعيش في زمن مُجزأ لا ماضي ولا مستقبل، فقط "اللايك" الحالي، والاستمتاع باللحظة من خلال التفاعل مع الريلز وتبادل النكت مع الأصدقاء.

المسؤولون عن الأزمة: من النظام إلى وسائل الإعلام

أ. الثانوية:

- تتعامل مع الفلسفة كـ "شكل ومادة" لا كـ" روح وممارسة حية". ،تصنف الفلسفة كـ"مادة ثانوية". خاصة الأقسام العلمية والتقنية، وتتعامل مع التلاميذ كأعداد وكتلة يجب مراقبتها والتحكم فيها وتوجيهها وتُهمل تعليم التفكير النقدي لصالح الحفظ.

 ب. الأسرة والمجتمع:

- تُكرّس النفعية والنظرة البراغماتية المفرغة من القيم الروحية حيث الهدف هو النجاح بأي ثمن ولو بالغش والحصول على الشهادة لأجل الوظيفة ولاقيمة للفكر في هذه المعادلة، والنظام التعليمي الذي يشجع على "الحفظ والتوقع" بدلًا من التفكير النقدي يُنتج طلابًا غير قادرين على مواجهة التحديات غير المتوقعة. هذه الظاهرة تعكس خللًا في غرس قيم الاجتهاد والإبداع ورفض بعض الأساتذة للتغيير في نمط الأسئلة قد يعبّر عن مقاومة التحديث في المناهج أو الخوف من فقدان السيطرة على مصادر المعرفة، بينما يطالب الطلاب بامتحانات "مألوفة" كحقّ مكتسب.

ج. وسائل الإعلام والرقمنة:

تُعزز السطحي من خلال نشر المحتوى السريع، والإجابات الجاهزة انها تشجع التلميذ على الكسل وتغرس لديه وهم امتلاك المعرفة وتُفكك قدرته على التركيز وتضعف ارادته مثلا بدل قراءة كتاب والتحضير من خلاله او الاشتغال على تمارينه يكتفي التلميذ المغرر به بمشاهدة "ريلز" او المشاركة في دورة مدفوعة الثمن على الانترنت للتباهي والهروب من الواقع وما يفرضه من اكراهات العمل وبذل الجهد. وهنا تتحول المنصات إلى فضاءات لنشر "أسئلة مزعومة" او ما يسمى التسريبات، ظاهرة تعكس تأثير المجتمع الافتراضي في تشكيل الواقع التعليمي، حيث تتحول الشائعات إلى حقائق مُسلَّمة بفعل التكرار والمصادر "المزعومة" (التي يروج لها بعض الأساتذة).

كتخريج عام

يمكن القول ان دفاع بعض الأساتذة عن أسئلة البكالوريا "المتوقعة" له علاقة وظيفية بالدروس الخصوصية وضعف التكوين في مجتمع سائل يعيش حالة من التخلف الثقافي والهشاشة الحضارية

واقعة تحركها المصلحة المادية حيث لا يجد بعض الأساتذة حرجا في تحويل الامتحانات إلى سلعة، وهنا تصبح "التنبؤات" بالأسئلة وسيلة لتعزيز مكانتهم في سوق الدروس الخصوصية، وجذب الطلاب عبر وعود بتحقيق نجاح مضمون تحت تأثير وهم السمعة المهنية التي يُروج البعض لها ولمقالاتهم "المُعدة مسبقًا" وتكهناتهم التي لاتخطئ في نظرهم كدليل على "خبرتهم"، مما يخلق هالة زائفة حول قدرتهم على التحكم في نتائج الامتحانات، ويُضعف ثقة الطلاب بالمنظومة الرسمية مما يعكس رفض التجديد- كما هو حال بكالوريا الفلسفة 2025 شعبة آداب وفلسفة - خوفًا من فقدان الامتيازات المرتبطة بكونهم "وسطاء" بين المنهج والطلاب، خاصة إذا كانت مهاراتهم لا تتجاوز تقديم إجابات جاهزة حالة كرست التبعية: من خلال تحويل التعليم إلى مقامرة على الأسئلة بدلًا من بناء المهارات مما أدى الى تآكل مصداقية المؤسسة التعليمية: فعندما يُنظر إلى الامتحان على أنه "مسابقة تخمين"، يُفقد التعليم قيمته الحضارية كأداة لتقييم المعرفة الحقيقية وبناء ما نسميه المواطن الحر والمسؤول.

***

عمرون علي – تخصص فلسفة

في المثقف اليوم