أقلام فكرية
إيمان عامر: السياسة الحيوية عند جيورجيو أغامبين.. من فوكو الى أبعد منه

يتناول الفيلسوف الإيطالي والناقد السياسي جيورجيو أغامبين georgeo agamben موضوع السياسة الحيوية، ضمن طيات مشروعه الفكري الموسوم بالإنسان المستباح homo sacer، المكون من عدة أجزاء مقسمة الى مجموعة كتب، في سبيل تحديد مميزات عمل السياسة المعاصرة في عدة مستويات، لعل أهم ما كتبه وما يهمنا هو عمل البيوسلطة في المجتمعات المعاصرة، التي صارت تعمل وفق نمط دمج المجتمع ككل على نموذج السياسة الحيوية، أي جعل حياة الأفراد موضوعا لعمل السياسي، بحيث يستهدف نمط معيشته وجسده عبر عمليات بيولوجية مختلفة، كما بينتهُ دراسات ميشيل فوكو، التي يهتم بها أغامبين كدراسة أحدثت ثورة فكرية في مجال الفلسفة السياسية المعاصرة، لكنه كأي ناقد سياسي، يتجه نحو أبعد منه، تعديلا توجيها، قبل أن يخوض في دراسة هذا المفهوم بجهاز مفاهيمي خاص به، خاصة وأنه اهتم بدراسة المعتقلات، مُؤرخا لما يحدث فيها من أساليب وطرق تستعملها السياسات أو المستعمرات بغرض تنقيح المجتمع، والحفاظ على الهدوء وحالة الاستقرار، الذي يمثل هاجس عمل السّياسي الأول.
ولعل أهم ما يميز السياسة الحيوية هو تحول الانسان الى انسان مستباح homo sacer1 الذي يعيش ضمن نطاق الحياة العارية La vie nue2 وهي بدورها تعرضه الى أقصى ما يمكن أن يتعرض اليه في هذا العالم من ناحية التهميش والعبث بجسده وبحياته ككل.
بداية يهتم أغامبين بفكر كارل شميث، بحيث يعد من أبرز المحاولات في تكوين نظرية عن حالة الاستثناء الذي يضمن وجود علاقة ما بالنظام القانوني، كما يؤكد على أن الاستثناء هو تلك المنظومة الأصلية التي بواسطتها يرتبط القانون ويحتويها بداخله، وذلك من خلال تعليق العمل بالقانون نفسه، ويصير النظام موجودا حتى لو لم يكن الأمر قانونيا ليصير الفرد في حالة ديكتاتورية وتبعية.3
قبل تحليل السياسة الحيوية عند أغامبين علينا بطبيعة الحال فهم الأرضية التي بنيت عليها، وهي بالدرجة الأولى حالة الاستثناء Etat d’exception 4التي تقوم على استبعاد فرد ما أو مجموعة من الناس من النطاق السياسي القانوني، والسيد هو من يقرر ذلك حسب تصريحات شميث التي تأثر بها أغامبين، وبالتالي لن تتمكن الهالة القانونية من حمايته أو التفكير في مصلحته، لكنها لن تستبعده استبعادا تاما، وانما تضعه تحت المراقبة ويتم التصرف في جسده، بكل سهولة، ولن يحميه القانون من هذا التعدي، ببساطة لأن الجسد هنا هو جسد الانسان الحرام المنبوذ.
يكون الانسان المستباح مستثنى داخل المحتشد باعتباره فضاء سياسي حيوي، ويظهر أنه النموذج الخفي للفضاء السياسي للحداثة، اذ أصبح التشابك بين السياسة والحياة ضيقا لا يمكن تحليله بسهولة، لأن السياسة حينما تدخل الى البيولوجيا والطب والجنس فإنها تفقد الوضوح، خاصة حينما سقطت بعض الأنظمة الحاكمة في العنصرية ، ان السياسة الحيوية حسب أغامبين تكون مطبقة أكثر في اللحظات الاستثنائية، أو الأماكن الاستثنائية، كالمحتشدات أو المعتقلات، فهي فضاء حاسم يعبر عن الهيمنة الحداثية، وهي الأماكن التي يُحبس فيها الأفراد، لسبب معين، أو يحدث ذلك في المستعمرات حين يجمع رجل السلطة المواطنين، المحتلين أو المعاقبين أو اللاجئين وغيرها، أو أفراد المجتمعات الشمولية، الذين تكون حياتهم ملكا لصاحب السيادة، هنا يصبح هؤلاء فاقدين للأهلية القانونيةـ، يمكن قتلهم ومعاقبتهم دون تدخل يمنع ذلك، لأنهم منبوذين وحياتهم مختلفة، و السياسة تطبق عليهم الكثير من التقنيات البيولوجية، بهدف التحسين، أو اجراء التجارب من أجل الاطلاع على النتيجة، وتقديم الأدوية الجديدة لهم لرؤية تأثيرها وما سيحدث لهم فيمابعد، أي جعلهم باختصار عرضة للتجريب، كما يحدث في السجون وفي السلطة المميتة أي النازية التي تمثل فضاء السياسة الحيوية المميتة ، اذن يصير الانسان المستباح في المعتقل انسانا مباحا للتجريب البيولوجي العنيف، وتجد السلطة هنا منفذها من أجل تعرية الحياة، ليصبح الانسان المستباح يعيش في كنف الحياة العارية، ولن يفقد حقوقه وقوانينه فقط، بل يفقد حق التصرف في حياته، ومن ثمة حياته ككل، لأن السياسة حين يكون هدفها الحياة أعمالها لا تكون واضحة، ولانستطيع تحديد منهجها وتقنياتها بدقة، بالأحرى تتميز بالمرونة ولايمكن الإمساك بها ولا نعلم ماذا تريد بالضبط من انتهاك الأجساد، الا حينما نرى النتائج.
يرى أغامبين أن ميشيل فوكو ضمن تحليلاته عن السياسة الحيوية، لم يقدم أفكارا عن السياسات الشمولية في القرن 20، وبما أن حنة أرندت hennah Arendt (1906-1975) قدمت دراسات حول السياسة الشمولية، غير أن دراساتها غاب عنها المنظور البيوسياسي، وهذا مؤشر يدل على صعوبة هذه المشكلة.5 اذن يجمع أغامبين، بين رؤية فوكو وحنة أرندت، بحيث أن فوكو الذي فصل بين السلطة السيادية والحيوية، في حين أنهما يهدفان الى نفس المهمة وهي مهمة حيوية في ذاتها، أي أن كل منهما يهدف الى السيطرة على الحياة، وبالتالي فالفصل بينهما سيرجعنا الى نقطة يلتقيان فيها وهي التحكم الحيوي في المجتمع، وبالتالي لاينبغي إقامة حد فاصل بينهما حسب أغامبين، ومن خلال تحليلات فوكو في ضبط عمل وميكانيزمات السياسة الحيوية، التي تكون غايتها الحياة البيولوجية، قد رصد استخدام الدول لهذه السياسة وبالأخص النازية، لكنه لم يشر الى عمل النُظم الشمولية الديكتاتورية التي تستغل الحكم المطلق والنفوذ الذي تتمتع به لصالحها، وتحاول الهيمنة على كافة الأفراد، وعلى كافة الجوانب، وبما أن السياسة الحيوية انتشرت بمحاذاة العلم فان هذه النظم تجد متنفسا جديدا لغزو مجتمعاتها عبر سياسة جديدة في الحياة، لتمارس أفظع التجارب على الانسان، كما حللت أرندت طريقة عمل هذه النظم لكنها لم تستند الى عنصر السياسة الحيوية، الذي يتخلل عمل هذه الأنظمة، في تنظيمها للسكان وممارسة التجارب عليهم، وتعريضهم للخطر عبر عدة تقنيات حيوية، وبالرغم من أنه نقص يحدده داغوني لدى كلا من الفيلسوفين، غير أنه يرى أن هذا أمر معذور لأن طبيعة الموضوع تفرض ذلك فالأنظمة الشمولية تتميز بالتنظيم الحيوي الى درجة أنه لايسعنا الفصل بين تلك الأنظمة والسياسة الحيوية خاصة في طبيعة العمل.
ان مبادئ تحسين النسل التي اعتمدتها السياسة الحيوية الاشتراكية القومية، كذلك تعزيز هتلر للقتل الرحيم، عبر عن مفهوم الحياة التي تستحق العيش، ليس باعتباره مفهوم أخلاقي وانما مفهوم سياسي وهو تحول الحياة الى حياة عارية التي يمكن أن نقتل فيها، ولايتم التضحية بها. 6 لقد عملت معظم الدول على توظيف تقنيات العلم والبيولوجيا في تعاملها مع الأفراد، لأن تلك التقنيات ستعمل على فرز المجتمع بدقة، خاصة عبر تقنيات التحسين، كما هو معروف بأن تلك الدول تعزز مبدأ العنصرية البيولوجية، وتقصي جانب كبير من الأفراد تحت ذريعة العلم، فالمصابين بالعاهات والقصور الجسدي لا يمكن لهم الاستمرار في العيش والعطاء، لأنهم يشوهون المجتمع وصورته، وانتاجه الاقتصادي وتشكل نظرة الاقصاء هذه الملامح العامة لعمل الدول وفقا لمبادئ التعديل الحيوي البيولوجي، وقد استعملت تقنية الموت الرحيم Euthanasié عبر البرنامج الحيوي للدول المميتة لعل أبرزها النازية، فقد كان القتل واجبا نحو من فقد الأهلية الإنسانية، أي الصفات التي تؤهله ليكون فردا كاملا، من الناحية البدنية أو العقلية، وفقد القدرة على العيش الطبيعي والتعايش الاجتماعي، واستمراره في الحياة مرهون بالأجهزة الطبية المتصلة به، فان نُزعت عنه، يموت مباشرة، خاصة وأن الموت الرحيم يعني نزع الأجهزة الطبية لمن لا أمل في شفاءه لأن حياته عبارة عن ألم فقط، وهذا مفهوم أخلاقي بالدرجة الأولى لكنه صار مع تحديات السياسات وتطلعاتها المرهونة بقوة الإرادة البشرية، قد أصبح مفهوم سياسي، اذ عملت الدول الديكتاتورية على تطبيقه والعمل به، خاصة مع سياسة هتلر، أين تمت محاكمة العديد من الأطباء الذين اعترفوا بفعل الكثير من التقنيات البيوطبية الخطيرة لعل أبرزها الموت الرحيم، والذي صار يطبق أيضا في المحتشدات حسب أغامبين.
اذن أصبحت الحياة في عصر البيوسلطة حياة عارية تتعرض للتحسين المستمر والاستثمار الاقتصادي، أي أنها دخلت في لعبة انتاج أنظمة عديدة، لتشكل فائض حياة، يكون الانسان هو النواة الأولى في لعبتها السياسية هذه التي تتتميز بالاستثناء، هذا وأن الجائحة أيضا التي شهدها عصرنا الحالي والمتمثلة في كوفيد 19 حسب أغامبين ظاهرة معقدة عبرت بصورة واضحة عن حالة الاستثناء التي استعجلت السياسات للإعلان عليها، اذ أنها معقدة في علاقتها بالاستثناء السياسي، وليست معقدة في ذاتها لأنها عبارة عن كائن فيروسي، وهنا نستحضر رؤية فوكو عند أغامبين في رؤيته للأوبئة حيث يؤكد على أن السلطة تستثمر اللحظات الاستثنائية، ولعل الكوفيد صورة استثنائية تحدث في المجتمع تستغلها الدولة لفرض حالة الحصار.
***
د. ايمان عامر
.........................
الاحالات:
1- الانسان المستباح: ترجمت الى العربية بالإنسان الحرام، وبالمنبوذ، ونفضل الانسان المستباح، وhomo sacer هو مصطلح استعاره أغامبين من القانون الروماني القديم، وهو الاسم القانوني لشخص حالته كالآتي: هو شخص لايمكن التضحية به كقربان لله، ولكنه في نفس الوقت مستباح الدم، بمعنى أي كان يمكن أن يقتله من دون أن تتم معاقبته على ذلك أبدا، هو شخص اذن خارج كل من القانون الالاهي فهو غير مقبول كأضحية، والقانون البشري فقتله أمر مباح تماما، شخص مطرود مرتين من رحمة الله ومن رحمة الانسان، هو شخص عرضه للموت اذن طوال الوقت، بوسع أي أحد أن يقتله دونما حرج، هذه العرضة الراديكالية للموت يسميها أغامبين بالحياة العارية.(ميكا اوجاكانجاس، حوار مستحيل حول البيوسلطة أغامبين وفوكو، ترجمة: طارق عثمان، مركز نماء للبحوث والدراسات،2005، ص9)
2 - الحياة العارية: حياة الانسان المستباح، أي محض الحياة أو مجرد الحياة، أو الحياة في صورتها الخام، الحياة البيولوجية، لاتوجد على نحو طبيعي، وانما يتعين انتاجها وهو ما تقوم به السلط عبر تقنيات معقدة.(المرجع نفسه،ص ص 9، 15.)
3- Georgeo agamben, homo sacer2, state of exception, translated by kevin attel, Stanford university press, California, 2017, p.p 193,194
4 - الاستثناء: حسب أغامبين هو ضرب من الاستبعاد، والسمة المميزة للاستثناء حسب أغامبين هي أن مايتم استبعاده من خلال لايصير باستبعاده، منبت الصلة عن القاعدة العامة، وانما على العكس تماما، فما يتم استبعاده بالاستثناء يحافظ على صلته بالقاعدة في شكل تعليق، تعطيل هذه القاعدة، أي أن القاعدة تظل مطبقة على الاستثناء، مثلا المعتقلين في سجن غوانتنامو، هؤلاء محرومون من أي حقوق قانونية، ومستثنون من القاعدة القانونية الطبيعية، لكنهم لايزالوا محتوون داخل القانون في صورة استثنائهم منه.( ميكا اوجاكانجاس، حوار مستحيل حول البيوسلطة أغامبين وفوكو، مرجع سابق،ص17) Ibid
.5- page 71
6-Ibid, page 82