آراء

بدر العبري: أماكن العبادة والطّقوس والحماية الأمنيّة في العالم العربي

من المؤسف حقّا أن تدخل مكان عبادة ككنس أو كنيسة أو مسجد أو مكان عبادة الأديان غير الإبراهيميّة، أو ممارسة لطقوس لها خصوصيّتها في دين أو مذهب كضريح أو حسينيّة، وتشعر بعدم الأمان نتيجة ما نراه من تحفظات وتفتيش، هذا التّشديد هو أمر طبيعيّ نتيجة لما حدث في العقدين الماضيين خصوصا من تفجير لكنائس ومساجد وحسينيّات، وما رأيناه قريبا من تفجير كنيسة مار إلياس في ضواحي دمشق، وما قامت به وزارة الدّاخليّة الكويتيّة في إقامة الشّعائر الدّينيّة العاشوريّة في المدارس بُعدا عن الحسينيّات لتحفظات أمنيّة، وهناك نماذج أخرى في أماكن مختلفة.

تعايشت المجتمعات العربيّة في خطّها الأفقي فيما بينها لقرون على مستوى جميع مكوّناتها، فطبيعيّ أن تجد تعانق الكنيسة مع المسجد في مصر والعراق وبلاد الشّام والسّودان، فعاش المسيحيون بتنوعهم مع المسلمين، يشتركون في أفراحهم وأتراحهم وتجارتهم ومعيشتهم، فألف المسلمون أجراس الكنائس، وشاركوهم أعيادهم ومناسباتهم، كذلك ألف المسيحيون أذان المساجد، وشاركوا إخوانهم المسلمين أعيادهم وأفراحهم، ولم يجدوا حرجا حتّى اليوم أن تكون مفاتيح كنيسة القيامة، وهي من أكثر الأماكن المسيحيّة قدسيّة في العالم، وإليها يحجّون؛ أن تكون مفاتيحها بيد عائلتين مسلمتين، ولم يفكّر المسلمون وهم الأكثرية أن يخربوها، أو يضايقوهم فيها، بل أسهموا في إحيائها وبقائها وصلاح عمارتها، هذا لا يعني عدم وجود حوادث سلبيّة في التّاريخ، لأسباب سياسيّة أو دينيّة أو مذهبيّة، لكن لا يلغي هذا وجود تعايش في الخطّ الأفقيّ في المجتمعات العربيّة طيلة التّأريخ.

ولمّا كنتُ في جربة بتونس، وفيها يتعايش الإباضيّة والمالكيّة مع اليهود؛ زرت الشّيخ محفوظ دحمان في مخبره المعنيّ بالتّجليد والتّرميم، ووجدتُ في مخبره مخطوطا باللّغة العِبريّة فسألته عنها فقال: «عندنا يهود في جربة يحتاجون إلى نسخ من كتبهم في صلواتهم وأدعيتهم، ويأتون إلينا لنسخها وتجليدها، والّذي تراه هو نسخ من مزامير داود، وميزة هذا الكتاب أنّ نصفه مكتوب بالعربيّة بخطّ عِبريّ، والنّصف الآخر مكتوب بالعِبريّة خطّا ونطقا، وعمر المخطوط هذا حوالي مائة وخمسون سنة تقريبا، واليهود جالية كبيرة في جربة يصلون إلى ألف وخمسمائة شخص، ومتعايشون مع المسلمين إباضيّة ومالكيّة بشكل كبير، أي في حدود مائة وخمسين إلى مائتي عائلة تقريبا، ويوجد تعامل كبير بينهم عشائريّا وماليّا مع الإباضيّة في جربة، فهناك علاقات تجاريّة وزراعيّة وصناعيّة بينهم، ولكلّ حرّيّته في معتقده وطقوسه».

وأخبرنا السّيّد مريوان النّقشبنديّ مدير العلاقات والتّعايش في وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة بإقليم كردستان العراق، أنّه أثناء «حرب داعش لليزيديين أو الإيزديين في بلدة سنجار بكردستان العراق، واليزيديون من الطّوائف الموحدة، الّتي تتخذ من الطّاووس رمزا لها، وهي أقليّة تنتشر خصوصا في العراق وسوريّة، ولهم طقوسهم الخاصّة، فلمّا حدث اضطهاد لليزيديين من قبل داعش؛ كان من كردستان جنديّ مسلم طلعت قرعته للحجّ، وقد دفع أربعة آلاف دولارا للحجّ، وقبل أربعة أيام من ذهابه؛ هاجمت داعش بلدة اليزيديين، فترك الحجّ، وذهب لنصرة اليزيديين حتّى استشهد في المعركة»، وذلك أنّهم ألفوا بعضهم، وتعايشوا بفطرتهم وسجيّتهم الإنسانيّة.

وقد رأيتُ بنفسي مصاديق أفقيّة عمليّة متنوعة للتّعايش في عالمنا العربيّ اليوم، لا أريد الإطالة لذكرها، بيد هناك أيضا نماذج تراثيّة في أدبيّاتنا العربيّة والإسلاميّة، وإن كان بعضها سلبيّا، بيد أن هناك مصاديق إيجابيّة، تعطي إضاءات يمكن الالتفاتة إليها، منها قوله تعالى: « وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» -الحج: 40- أي لولا سنّة التّدافع لهدّمت الصّوامع وهي دير الرّهبان، والبيع وهي الكنائس، وأخبرني الأب المارونيّ حنّا إسكندر أنّ «البيع هي الكنيسة لها قبّة دائريّة، وفي السّريانيّة البيعة يعني البيضة، أي أعلاها على شكل بيضة، وهنا بمعنى الكنيسة بالشّكل البنائيّ»، والصّلوات كنس اليهود، والمساجد معروفة، وسنّة التّدافع تؤدّي إلى حفظها لا إلى خرابها، ونشر الخوف فيها، وفي الأدبيّات عن أبي بكر الصّديق (ت: 13هـ): «لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصّوامع».

فأصبح من المستقرّ حفظ عبادات النّاس ولو وقت الحرب، فكيف بحالة السّلم، وأصبح مستقرّا عقلا واجتماعا أنّ الّذي يدخل أيّ دور عبادة يشعر بالأمان والاطمئنان فيها، وأنّ الاقتراب منها تخويفا أو فسادا جرم كبير، ولو اختلفوا مع دائرة المجتمع الأفقيّة عقائديّا أو طقوسيّا، فهذا لا يرفع حريّة المعتقد وممارسة الطّقوس، وحريّة أن تكون لهم أماكن عبادتهم، لها حرمتها ومكانتها، فما نراه اليوم في عالمنا العربيّ من حين لآخر من تفجير وخراب لكنائس ومساجد وحسينيّات ودور عبادة، وإرهاب من فيها؛ يقف المرء أمامها حيران، أهو تخطيط سياسيّ مسبق لإثارة الفوضى الدّينيّة والطّائفيّة في عالمنا العربيّ، أم هو انحراف فكريّ ومعتقديّ تؤمن به بعض الجماعات المتطرّفة، وتبرّر له فكريّا وعقائديّا، أم هو نتيجة خطاب سلبيّ أدّى إلى مثل هذه النّماذج الأليمة، والّتي تؤثّر سلبا في التّعايش السّلميّ، وتقضي على التّعدّديّة في العالم العربيّ، فنحن بحاجة إلى مراجعات أكبر ليس لحفظ المقدّسات التّعبديّة فحسب؛ بل لحفظ حريّات النّاس، وأنّ جميع أوطاننا العربيّة تسع اختلافاتهم وتوجهاتهم، وتتعامل معهم إنسانيّا، وتترك ما عدا ذلك لاختياراتهم، ليشعر الجميع أنّ الأمن والانتماء يأتي من داخلهم كأمّة واحدة، لا أن يكون معلّقا بجهات معيّنة يظهر خلافه عند أدنى اضطراب أمنيّ وسياسيّ.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

في المثقف اليوم