آراء

عبد الأمير الركابي: "وطن كونيه عراقية" لاوطنيه زائفه (1)

عاش العراق على مدى القرن المنصرم ماخوذا بوطاة ازدواجية برانيه، ترافقت مع الحضور الغربي المباشر، ومعه الحضور النموذجي الاسقاطي المفاهيمي كما عرف وتجسد فيما صار يعرف على انه "الحركة الوطنيه"، بتمثلاتها الايديلوجية المنقولة الثلاث الرئيسية، الطبقية الماركسية، والليبرالية، والقومية، وهي تيارات تبلورت واستقرت بالصيغ التي وجدت عليها، ارتكازا الى مروية الغرب عن "العراق الحديث" كما وضعها الضابط الانكليزي الملحق بالحملة البريطانيه فليب ويرلند، والذي يرهن تشكل العراق الحالي بالظاهرة والنظام الاقتصادي الراسمالي العالمي، واضعا له تاريخ بدء  وانطلاق محدد، هو العام 1831 مع الاحتلال التركي الثالث الذي ازاح اخر الولاة المماليك داود باشا، معتبرا الحدث المذكور بداية التشكل المجتمعي والسياسي للولايات التركية الثلاث، بغداد، والموصل، والبصرة وصولا الى السوق الواحدة، وقيام الحكومة المؤقته تحت الاحتلال الانكليزي عام 1920.

ووقتها لم يكن العراق يعرف، او هو متوفر على اية رؤية ذاتية، او تصور بالحدود الدنيا للكينونه الوطنيه التاريخيه، ذلك مع ان البلاد كانت قد شهدت بدايات التبلور التاريخي الانبعاثي الحديث الراهن منذ القرن السادس عشر، مترسما الخاصيات البنيوية التاريخيه للموضع المعروف بارض مابين النهرين، وهو مايخالف كليا المنظور ومفهوم الغرب وويرلند عن التشكلية التاريخيه "المجتمعية" وآلياتها، بالاخص في موضع وجد كاستثناء ونمطية خاصة مغايره للشائع على مستوى المعمورة، بما خص التشكل الذاتي، فالعراق يولد من الجنوب ليتشكل لاحقا امبراطوريا ازدواجيا نتيجه للاصطراعية الازدواجيه التي يتشكل منها، فارض مابين النهرين ليست ارض الكيانيه الواحدة الموحده، بل كيانيه اللاكيانيه الازدواجية الكونيه، مافوق الاحادية، المتعارف عليها تاريخيا كنموذج في حالتها الاعرق المصرية الشرق متوسطية، الاخرى النهريه المقاربة تبلورا زمنيا، والمفارقة نوعا للحاله العراقية.

وتحكم حالة العراق اليوم بالذات نقيصة تاريخيه تعمل لصالح المنظور الاستعماري الغربي نموذجا ورؤية، بالاخص مع انتقال اوربا الحديثة الى الانقلاب الالي، وماقد تمتعت به وبناء عليه من ارجحية وغلبة شامله على مستوى المعمورة، يقابلها في العراق واقع هو خاصية عامه شاملة، تميز علاقة العقل بالظاهرة المجتمعية، ظلت تتمثل كحالة قصور وعجز بازاء الحقيقة المجتمعية الاهم، الامر الذي ظل يحكم الحالة في العراق اولا، فالنمطية والكينونة العراقية وتاريخها الاطول مقارنه بتواريخ المجتمعات، تظل خارج الادراك مع توالي الدورات والانقطاعات الحاكمه لتاريخ هذا المكان من المعمورة، فالعراق وجود بلا ذاتيه ولا تعرف على الذات، لانها فوق الطاقة المتوفرة للعقل البشري وقتها على الاحاطة الممكنه والمتاحة، الامر الذي استمر وكان متوقعا له ان يظل حاضرا اليوم، خصوصا وان العراق كان حتى حينه يعيش اشتراطات ماقبل الانقلابيه الآليه، تلك التي بدات في الغرب الاوربي بمعنى استمرار مفاعيل الطور اليدوي هنا، مقابل طلائع الحضور الغربي الالي المتاخر.

ولم يكن هذا كل ماقد لعب دوره لصالح الحضور الغربي وغلبته، فالعراق يوم وصلت طلائع الحملة البريطانيه الى الفاو عام 1914 صاعدة نحو عاصمة الدورة الثانيه المنهارة، لم يكن في عزاو ذروة الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، ولا حتى ايام الدورة الامبراطورية الاولى السومرية البابليه الابراهيمه، بل كان في حال انهيار انقطاعي، هو من خاصيات هذا المكان واصطراعيته المجتمعية الارضوية اللاارضوية، حل على المكان مع سقوط بابل، ثم عاد مرة اخرى مع انتهاء الدورة الثانيه بسقوط بغداد، وليس من المنطقي تصور امكانيه، او احتمال نشوء تجاوزية للقصورية الادراكيه التاريخية، تحت طائلة الانقطاعية الانحطاطية، اذا تحدثنا عن تمخض طال انتظاره ذاتيا، وعلى مستوى المعمورة.

وحين يكون العراق منهارا مقارنه بذاته وذراها التاريخيه الكبرى، والغرب في ذروة صعوده الحديث الالي، فان الحصيله تكون ساعتها محسومة حتما، حتى مع حضور العراق السابق على الغرب ونهضته قبل بدء الانقلاب الصناعي الالي بقرابة القرن، ومروره بلحظتين انبعاثيتين، اولى قبلية تبدا مع القرن السادس عشر، مع قيام "اتحاد قبائل المنتفك" في ذات ارض سومر عام 1530، وثانيه انتظارية نجفيه تبدا مع القرن الثامن عشر، بعد الثورة الثلاثية التي حررت العراق من جنوب بغداد الى الفاو عام 1787، فالمتوقع ان لاتكون التشكلية الحديثة الذاتيه العراقية ساعتها قابلة لان تحقق "النطقية" الغائبة المؤجلة المنتظرة خلال المحطتين اليدويتين انفتي الذكر، لتاتي الظاهرة الغربيه وزخم صعودها الالي النوعي التاريخي، متوفرة على كل الاسباب الضرورية لاكتساح المجال العائد الى الذاتيه والتعبير عنها.

وليس هذا وحسب، فقد يكون الاهم في المشهد المشار اليه، تمكن المسقط الغربي الشامل من غمط وتشويه نوعية وطبيعة الاصطراعية الفعليه الحاصلة، والتي نشأت وقتها بين الذاتيه العراقية والغرب واستعماره وغلبته النموذجيه، لتحولها من الجانب العراقي الى مجرد ازالة الاستعمار بوسائل الاستعمار، مع نية احلال النموذجية الغربيه محل الذاتيه التاريخيه، بمسح والغاء اي حضور ذاتي او وجودي ممكن، فضلا عن ان يكون ضروريا، لا بما خص العراق بالذات، بل على مستوى المعمورة، وبما يتعدى النموذجية والرؤية الغربيه للعالم واللحظة الانقلابيه الاليه.

وهنا تقع قصورية الغرب ومنظوره واجمالي تفاعليته مع الانقلابية الاليه بصيغتها الابتدائية المصنعية، والتي تعجز تكرارا للقصورية التاريخيه عن ان ترى في الانقلاب الالي، انقلابا مجتمعيا، تنتهي معه صيغة ونوع نمطية المجتمعات البشرية المتولدة ضمن اشتراطات الانتاجوية اليدوية، حيث المجتمعية الارضوية الجسدية الحاجاتيه، التي تنتهي صلاحيتها مع الانقلاب الالي ومساراته، وماهو ذاهب اليه من تحولية مجتمعية، تنتج عن تبدل الاشتراطات التفاعلية من مجتمعات (البيئة / الكائن البشري) الى (الكائن البشري / متبقيات البيئة/ الالة) الامر المباين والمختلف نوعا وحصيلة، عنده تنتهي صلاحية المجتمعية الاولى، بينما تظل حيه وفاعلة نمطية مجتمعية منطوية على مقومات التعايش والحضور الفاعل بظل التحولية الحاصلة، والاخذه بالمجتمعات البشرية الى "اللاارضوية".

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

في المثقف اليوم