قراءات نقدية
مفيد خنسة: تجليات في روح الشاعر السعودي إياد الحكمي

(تجليات في روحي)
(كآخر ليلٍ
خلف آخر نجمة
تجليك في روحي التي قد تجلّت
بعيدان حدّ الضوءِ
حدّ انعكاسهِ
قريبان حدّ الظلّ
حد التفلّتِ
أتيت بلا وجهٍ
وغبتُ بلا خطاً
فطيفك دربي
وانتظارك وجهتي
ترددت حتى خلت صوتي تعثري
وخطّ يدي محوي
وخوفي هويتي
ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا
بدمعي
ورأسي
وانتباهي
وسمرتي
رأيتك في هذا الدخان
وليس ما أراه
سوى هذا الدخان المشتتِ
وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ
وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ
وعدت مراراً للخيال
ولم أزل أعيد خيالي
مرة بعد مرة
هنالك
-والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ-
خالطنا الخطايا فخفّتِ
وأرهقت أنفاساً تدلت بأضلعي إليكِ
كما أرهفتها وتدلّتِ
ضممتك لي
لا أنت عندي ولا أنا
ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي
همست كأن الريح شُدّتْ من المدى
وحطت على أرضٍ
من الرملِ شدّتِ
فما ذرة مني
ولا منك ذرّةٌ
سوى عانقت من بعضنا
كلّ ذرّة
بلا لغةٍ
والوقت محض قصيدةٍ
ولا شفةٍ
لكننا نصف قبلةِ
وبالحسن
شعراً طاعناً في سكوتهِ
وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت
حملنا جروح العشقِ
كنتُ الفتى الذي يصابُ
وكنت السهمَ
والمرأة التي ...)
***
تجليات في روح الشاعر السعودي إياد الحكمي
لعله أصعب الكلام ذلك الذي يقال في النهايات، لأنه قد يعني ويحدد حقيقة السلوك، ولعله يوضح الحقائق التي يمكن أن تكون قد بقيت خافية لزمن طويل، القول في النهايات غالباً ما يجيء مختصراً هادفاً دالاً، عندما ندرس في الرياضيات نهاية تابع ما عند أطراف مجالات تعريفه يثيرني القول: إن هذه الدراسة تفيد في معرفة سلوك خطه البياني عند أطراف مجالات التعريف!!، وفي الحياة أيضاً عند نهايات المجالات من الحياة يصبح القول دالاّ على حقيقة السلوك، زمن الوداع والهجرة والرحيل، زمن الفراق والمخالصة والانفصال، قد تعبر عن نهايات مجالات في حياتنا كما أن زمن اللقاء والإقامة والبقاء، وزمن الألفة والحب والارتباط قد تعبر عن بدايات مجالات في حياتنا، فأطراف المجالات تعني البدايات والنهايات وأما في الحياة نعني بالنهايات نهاية المجال وليس بدايته، وهي المقابلات المناظرة لها بالنسبة لما يفترضه نوع التناظر، أما قول الشعر في النهايات يقتضي التوقف والتأمل، وهذا ما سأحاول أن أفعله في دراستي لقصيدة الشاعر السعودي إياد الحكمي (تجليات في روحي) التي تضمنتها مجموعته الشعرية (لا أسميك أيها اليأس وقتاً) الصادرة عن أكاديمية الشعر في أبو ظبي .
الفرع الأول:
يقول الشاعر:
(كآخر ليلٍ
خلف آخر نجمة
تجليك في روحي التي قد تجلّت
بعيدان حدّ الضوءِ
حدّ انعكاسهِ
قريبان حدّ الظلّ
حد التفلّتِ
أتيت بلا وجهٍ
وغبتُ بلا خطاً
فطيفك دربي
وانتظارك وجهتي
ترددت حتى خلت صوتي تعثري
وخطّ يدي محوي
وخوفي هويتي
ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا
بدمعي
ورأسي
وانتباهي
وسمرتي
رأيتك في هذا الدخان
وليس ما أراه
سوى هذا الدخان المشتتِ
وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ
وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ
وعدت مراراً للخيال
ولم أزل أعيد خيالي
مرة بعد مرة)
يبين الشاعر في هذا الفرع صورة التجلي للحب وعقدته (كآخر ليلٍ) وشعابه الرئيسة هي: (كآخر ليلٍ / خلف آخر نجمة) و(تجليك في روحي التي قد تجلّت) و(أتيت بلا وجهٍ / وغبتُ بلا خطاً) و(ترددت حتى خلت صوتي تعثري / وخطّ يدي محوي / وخوفي هويتي) و(ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا / بدمعي / ورأسي / وانتباهي / وسمرتي) و(رأيتك في هذا الدخان / وليس ما أراه / سوى هذا الدخان المشتتِ) و(وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ / وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ) و(وعدت مراراً للخيال / ولم أزل أعيد خيالي / مرة بعد مرة)، أما شعابه الثانوية فهي: (بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ) و(قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ) و(فطيفك دربي / وانتظارك وجهتي).
في المعنى:
الأسلوب في هذا الفرع يجمع بين الخبري والإنشائي، وفيه يقدم الشاعر ملامح التجلي من حيث الزمان والمكان، فقوله: (كآخر ليلٍ / خلف آخر نجمة / تجليك في روحي التي قد تجلّت) أي في اللحظات الأخيرة من الليل، وبعد أفول آخر نجمة فيه بانت وظهرت في روحه التي أشرقت على نفسه، وقوله: (بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ / قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ) أي فبانت في تجلي روحه كأنهما بعيدان بعد الضوء عن انعكاسه، والبعد هنا لا يعني المسافة بقدر ما يعني التفاوت، أي منفصلان لا تلتقيان من حيث تفاوت الكثافة في التجلي فالضوء المنعكس يكون أكثر شفافية ورقة من الضوء نفسه، ولكنهما يبدوان قريبين قرب ظل الشيء من الشيء ذاته، إنه قولٌ في النهايات التي تقدم الحديث عنها، نهاية ليل، ثم نهاية نور النجم، عند هذا الحد يبين الشاعر صورة التجلي، أولا للروح المحتجبة في النفس، وللمحبوبة المحتجبة في نفسه وروحه، وقوله: (أتيتِ بلا وجهٍ / وغبتِ بلا خطاً / فطيفك دربي / وانتظارك وجهتي) جاءت على غير ما تجيء العاشقات في الوقت الأخير من الليل، لأن مجيئها معنوي، أي تجلت له فرآها لا تحد بوجه آدمي وغابت من غير خطاً فكان حضورها كالطيف اللطيف يسعى إليه ويتوجه إليه حيث تبدو علائمه، وقوله: (ترددت حتى خلت صوتي تعثري / وخطّ يدي محوي / وخوفي هويتي) وهذا حال العاشق الي ينتظر من يهوى! أي في لحظة تجليها بدا في حالة من الحيرة بين الشك واليقين حتى ظن أن صوته لن يقدر على القول، فحاول أن يعبر كتابة حتى خال أن ما يكتبه قد غيب تجليه ولم يبق شيءٌ دال على حضوره سوى الخوف والرهبة في تلك اللحظات العصيبة، وقوله: (ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا بدمعي / ورأسي / وانتباهي / وسمرتي) أي في تلك اللحظات ما كان يحس بوجوده الحسي وبعينيه لولا من الدموع التي انهمرت غزيرة من حرارة تلك اللحظات، وقوله: (رأيتك في هذا الدخان / وليس ما أراه / سوى هذا الدخان المشتتِ) أي رآها روية العين في هذا الدخان الذي يملأ الفراغ حتى ظنها معينة فيه، فإذا هي ممتدة إلى نهايات الدخان الذي بدا مشتتاً بعد الكثافة، وقوله: (وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ / وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ) أي وعندما غادره هذا الدخان المشتت قبل انطفاء شمعة تجليه وقبل زوال موسيقا الفرح لأغنيات اللقاء بشهقة واحدة، وقوله: (وعدت مراراً للخيال / ولم أزل أعيد خيالي / مرة بعد مرة) أي قبل الانطفاء وقبل زوال الأغنيات عاد إلى خياله لاستحضار صورة تجليها وما زال يعيد الخيال مرة تلو الأخرى من أجل ذلك.
الصورة والبيان:
يستغرق الشاعر في هذا الفرع بوصف لحظة التجلي، على غير طرق الشعراء المتصوفين في الكتابة عن مثل هذه اللحظات، ثم يتحدث عن التجلي على ما ينحو نحوه المتصوفون، لكنه يحاول أن يتحرر من المحسوس ويرتقي إلى المعنوي، وهي اللحظات التي يعبر فيها الشاعر عن النهايات وهنا يكون الحديث في المعاني والحقائق، ولا يخلو هذا الفرع من المفردات الصوفية والتعابير الصوفية من دون تصوف، من هنا يكون الحديث عن الصورة البيانية المألوفة ليس ذا أهمية، بقدر ما تكون الأهمية للمعاني والأفكار، إنه أقرب إلى السهل الممتنع، فالجمل والتعابير والتراكيب الشعرية من شدة وضوحها يصعب توضيحها وشرحها لأن قبولها يكون بالحدوس وليس بإقامة الحجة أو الدليل. إنها البلاغة البلاغة !!، فكيف يمكن أن نوضح البلاغة في البلاغة؟!.
الفرع الثاني:
يقول الشاعر:
(هنالك
- والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ -
خالطنا الخطايا فخفّتِ
وأرهفتُ أنفاساً تدلت بأضلعي إليكِ
كما أرهفتِها وتدلّتِ
ضممتك لي
لا أنت عندي ولا أنا
ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي
همست كأن الريح شُدّتْ من المدى
وحطت على أرضٍ
من الرملِ شدّتِ
فما ذرة مني
ولا منك ذرّةٌ
سوى عانقت من بعضنا
كلّ ذرّة
بلا لغةٍ
والوقت محض قصيدةٍ
ولا شفةٍ
لكننا نصف قبلةِ
وبالحسن
شعراً طاعناً في سكوتهِ
وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت
حملنا جروح العشقِ
كنتُ الفتى الذي يصابُ
وكنت السهمَ
والمرأة التي ...)
يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الكيفية للتجلي وعقدته (هنالك) وشعابه الرئيسة والثانويّة لا داعي لذكرها اختصاراً.
في المعنى:
الأسلوب في هذا الفرع خبري وإنشائي، وفيه يتابع الشاعر بيان كيفية التجليات في روحه، فقوله: (هنالك / -والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ- / خالطنا الخطايا فخفّتِ) أي في ذلك المكان والزمان للتجلي حيث يكون للإنسان ما سعى، وما قدم لنفسه فيما مضى، يبدو الإنسان بوزنه الحسي أقل بما لا يقاس من ثقل الآثام التي ارتكبها في حياته، فأضاف كل منهما خطاياه إلى خطايا الآخر فبدت أخف ثقلاً عليهما، وقوله: (وأرهفتُ أنفاساً تدلّت بأضلعي إليكِ / كما أرهفتِها وتدلّتِ)، أي جعل أنفاسه التي تملأ صدره الحاني إليها أكثر رقة كأنفاسها التي التي رقّت واستجابت لأنفاسه ودنت واقتربت، وقوله: (ضممتك لي / لا أنت عندي ولا أنا / ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي) أي ضمّها حيث لا شيء سوى أثريهما، عطرها ورعشته قائمتان في النفس من غير جسد، وقوله: (همست كأن الريح شُدّتْ من المدى / وحطت على أرضٍ / من الرملِ شدّتِ) أي كان همسه كالريح التي تهب على أرض رملية فتتخللها وتبعثر حباتها، وقوله: (فما ذرة مني / ولا منك ذرّةٌ / سوى عانقت من بعضنا / كلّ ذرّة) أي كان عناقاً شاملاً كاملاً بينهما، وقوله: (بلا لغةٍ / والوقت محض قصيدةٍ / ولا شفةٍ / لكننا نصف قبلةِ) أي الهمس كان من غير قول، والقبلة كانت من غير شفة لأن كلاً منهما كان في لحظة التجلي، فمثّلا معاً النصف المعنوي من القبلة من دون نصفهما الحسي، وهما في لحظة التجلي الشعري، وقوله: (وبالحسن / شعراً طاعناً في سكوتهِ / وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت) أي هناك حيث يكون الشعر ممعناً في الصمت فيما يكون القلب متحرراً من كل قيد، وقوله: (حملنا جروح العشقِ / كنتُ الفتى الذي يصابُ / وكنت السهمَ / والمرأة التي ...) أي تقاسما معاً في تلك اللحظات من التجلي جروح الهوى والعشق المقدس فكان الشاعر الفتى الذى أصيب بينما كانت القصيدة هي السهم والمرأة ترمي فتصيب.
زمن القصيدة:
الزمن في القصيدة يتقلص حتى يغدو برهة زمنية آنية، وهي لحظة التجلي، وهو زمن يتقاطع فيه الزمن الحسي مع الزمن النفسي الداخلي، إنها لحظة تشبه اللحظة الفاصلة بين آخر ليل مظلم، وغياب آخر نجمة فيه حيث تجلت مع تجلي روحه، وزمن القصيدة هو زمن تجلي روح الشاعر مع زمن تجليها، وقد قابل الشاعر بين المرأة المحبوبة وبين القصيدة الشعرية، ثم مازج بينهما من خلال تقاطع الصفات المشتركة، فبقي الجانب الحسي عبر زمن إحداثه ذا تأثير حسي من خلال الصور الشعرية المباشرة، أما الجانب المعنوي فقد كان زمنه مكثفاً إلى الدرجة التي بدا فيه الفعل متخيلاً عبر استخدام المعاني المجازية والصور البيانية، وهذا الزمن هو زمن قابل للتكرار والتبدل والتجدد، لأن قوله: (كآخر ليل) أي آخر أي ليلٍ، ولا أدري لماذا ذكرتني هذه القصيدة بقصة الأعرابية الشهيرة وإنشادها، (لها أنّة عند العشاء وأنة / سحيراً ولولا أنتاها لجنّتِ) على الرغم من اختلاف الموضوع لكن القافية نادرة ومؤثرة. ويبقى زمن القصيدة هو تقاطع أزمنة مكوناتها الحسية والمعنوية.
ضيق العبارة واتساع المعنى:
وهذا قول النفري المتصوف الكبير (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)، الذي ترك (مخاطباته) كنزاً غنيّاً فريداً في علم القول وفنه، وسأوضح هذا القول الذي ينطبق في مواقع متعددة من هذه القصيدة من خلال المثال التالي:
المثال:
(بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ / قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ)
هذا البيت الشعري يستدعي التوقف والتأمل والتبصر من أجل فهمه من جهة ومن أجل محاولة الاستدلال على الأصول في طريقة وصول الشاعر إليه، وبذلك تتوضح الصورة القريبة للتجلي ومعناه لدى الشاعر، يقول: (بعيدان) أي المتجلي وهو الحبيبة هنا (القصيدة أو المرأة) وإن كنّا قد قدمنا في المعنى لما يظهر لا حقاً في القصيدة، والمُتجلَّى له، وهي روح الشاعر المتجلية أيضاً، فماذا عنى الشاعر بهذا البعد؟ هل عنى المسافة؟ من دون شك: إن البعد مسافة من حيث البعد المكاني، لكن البعد هنا بعد معنوي، وهذا يعني الاختلاف في التجلي على الرغم من الاتفاق في الصفة وهي هنا التجلي، وقوله: (حد الضوء) وذلك من أجل تقريب صورة المعنى إذ ليس للضوء حد، لكن من أجل أن يبيّن ماذا يعني بالبعد هنا، وقوله: (حد انعكاسه) أي من أجل تقريب المعنى أيضاً، إذ ليس لانعكاس الضوء حد، والمعنى: إن البعد بين تجليهما معاً كبعد الضوء عن انعكاسه، وهنا نتبين ماذا عنى الشاعر بالبعد: إنه التفاوت في الحضور، إذ من المعلوم أن الضوء المنعكس يكون أكثر شفافية ورقة وكثافة من الضوء نفسه، فهما بعيدان بعد التفاوت في شدة الحضور والتجلي، ولكن الذي يثيرنا ويدفعنا دفعاً للمساءلة هو قوله: (بعيدان) مما يجعلنا نتوهم أن الشاعر قد وقع في تناقض، إذ كيف يمكن يكون شيئان متباعدين من جهة وهما قريبان من بعضيهما من جهة أخرى؟!، حتى نستدرك أن هذا التناقض يكون في المعاني الحقيقية الحسية، أما في لغة الجاز فذلك ممكن وجائز، ولكي تتوضح الصورة فإن الشاعر يعطي صورة قريبة لتمثل الأمر فيقول: (حد الظل) إذ يكون ظل الشيء على هيئة ذلك الشيء من حيث الضوء الوارد إليه ومعلوم أن ظل الشيء ينعدم إذا كانت زاوية ورود الضوء على الشيء معدومة، وحين يميل الضوء في وروده إلى الشيء يميل ظله، وكلما كانت زاوية الورود صغيرة كلما كانت زاوية الانعكاس صغيرة أيضاً ويكون الظل صغيراً، وكلما كانت زاوية الورود كبيرة كان الظل كبيراً حتى ينفلت الظل ويصبح في اللانهاية حين تقترب زاوية الورود من التعامد على الشيء ذاته، وتبقى زاوية انكاس الضوء مساوية لزاوية وروده وعل الرغم من التجاور فيما بينهما فالظل يبتعد ابتعاداً كبيراً، أي متقاربان من حيث التجلي متباعدان من حيث شدة الحضور والتجلي.
التوازن وتمثيل القصيدة:
إن مركز توازن القصيدة الشعرية هو (التجلي)، لأنه يمثل نقطة انطلاقها وبؤرة انبثاقها، ويمكن اعتبار كل عقدة من عقدتيها نقطة توازن بالإضافة إلى النقاط التالية:
أولا: (التفلّت) هي نقطة تقاطع بين الفرعين الأول والثاني فهي نقطة توازن .
ثانياً: (الانعكاس) هي نقطة تقاطع بين الفرعين الأول والثاني فهي نقطة توازن .
فإذا مثلنا مركز توازن القصيدة بدائرة مركزية صغيرة ومثلنا عقدتي الفرعين على محيط دائرة متمركزة مع الدائرة السابقة، ثم مثلنا نقاط التوازن على محيط دائرة أخرى متمركزة مع الدائرتين السابقتين، ثم مثلنا الفرعين بأشعة منطلقة من المركز إلى عقد الفروع، وبعد ذلك إذا مثلنا الشعاب الرئيسة والفرعية بأشعة منطلقة من كل عقدة من فرعي القصيدة إلى نهايات المسارات لكل فرع، نكون بذلك قد حصلنا على تمثيل دائري للقصيدة، وهذا التمثيل يمكن أن يبين كيف أن القصيدة تميل إلى التوازن. على الرغم من أنها تتكون من فرعين اثنين فقط .
القصيدة الاحتمالية والنص الممكن:
تتألف القصيدة من فرعين ويمكن إعادة ترتيبهما بطريقتين فقط، أي يمكننا أن نحصل على قصيدتين ناتجتين من إعادة ترتيب الفرعين، وإذا لاحظنا أن الفرع الأول يتكون من تسع شعاب رئيسة فيمكن إعادة ترتيب هذه الشعاب ب(9) عاملي أي ب(362880) طريقة، وفيه ثلاث شعاب ثانوية ويمكننا إعادة ترتيبها بست طرق، وهكذا يمكننا أن نعيد ترتيب الفرعين مع شعاب الفرع الأول ب(725772) طريقة، وإذا أجرينا الطريقة نفسها على الفرع الثاني، نجد أنه بالإمكان أن نحصل على عدد كبير من القصائد الشعرية التي يمكن أن نحصل عليها من هذه القصيدة، وكل قصيدة منها هي قصيدة افتراضية، لكنها تعتبر نصاً ممكنا ولو نظريّا، أما إذا لاحظنا أن القصيدة تتكون من ستة عشر بيتاً شعرياً فيمكن إعادة ترتيب أبيات القصيدة ب(20922798888000) طريقة، أي هناك العدد نفسه من القصائد التي يمكن أن نحصل عليها بعدد إمكانات إعادة ترتيب الأبيات في هذه القصيدة، وهو رقم كبير جداً كما نلاحظ، وكل قصيدة من هذه القصائد تمثل قصيدة احتمالية، وهي افتراضية من دون شك، والشاعر لا يعترف على أي من القصائد الممكنة، إنما يعترف بالقصيدة التي أشهرها رسماً في مجموعته الشعرية (لا أسميك أيها اليأس وقتاً) على الرغم من أنها تمثل واحدة من هذه القصائد الممكنة.
***
مفيد خنسة - ناقد