أقلام فكرية

آمال بوحرب: إيقاعات الكينونة.. في جوهر العادة بين الفلسفة والسوسيولوجيا

حين تستيقظ الذات على تكرارها

ليست العادة مجرد تكرار ميكانيكي لأفعال يومية، بل هي خيط دقيق ينسج الكينونة داخل الزمن ويمنح الحياة شكلًا يمكن احتمالُه. العادات التي نظنّها بسيطة، كشرب القهوة أو الكتابة أو المشي، تختزن في عمقها دلالة وجودية، لأنها محاولات دؤوبة لترميم الذات أو تأجيل تفككها. من هنا تصبح العادة شكلًا من أشكال المقاومة الصامتة للعدم، واستراتيجية للتموضع في العالم، يلتقي فيها الفلسفي بالأنثروبولوجي، والوجودي بالاجتماعي.

العادة.. حضور متجسد للزمن في الجسد

يرى مارتن هايدغر أن الكينونة لا تُفهم إلا من خلال “الوجود في العالم”، حيث يتحقق الزمن كخبرة معاشة، كما أشار في كتابه الوجود والزمان. في هذا السياق تغدو العادة طقسًا زمنيًا يكرّس الجسد كذاكرة تتكرر، وكأن الإنسان يعيد كل صباح بناء وجوده من خلال ما اعتاده. فشرب القهوة مثلًا ليس ترفًا، بل عودة إلى الذات، إلى تموضعها داخل إيقاع مألوف تعيد به تعريف كينونتها. ولهذا قال هايدغر إن “الوجود الإنساني هو وجود منفتح على الزمن، والطقوس اليومية ليست إلا تجليًا لهذا الانفتاح”

سوسيولوجيا التفاصيل الصغيرة.. العادة كحامل للمعنى

كما يرى ميشيل دي سيرتو، فإن الممارسات اليومية تشكل نوعًا من “التكتيك” الذي يمارسه الأفراد داخل النسق الاجتماعي من أجل خلق حيز من الحرية. فالعادات ليست مجرد طاعة بل مقاومة صامتة، تُمارَس داخل حدود المألوف لتوليد ذاتية مبدعة. حين نكتب أو نعدّ الشاي بطريقة خاصة، نحن لا نكرر فقط، بل نستعيد السيطرة على تفاصيل الحياة. ولذلك ذكر دي سيرتو في اختراع الحياة اليومية أن “العادة اليومية هي شكل من أشكال التعبير عن الذات داخل فضاء اجتماعي تُرسم حدوده خارجيًا”

الكتابة عادة.. حين تُصبح الحروف بيتًا للوجود

الكتابة بالنسبة لمن يمارسها ليست مجرد تقنية بل فعل وجودي، طقس متجدد تنبع فيه الذات من ذاتها. حين تجلس الذات أمام الورقة كل صباح، فهي تعيد سرد كينونتها بلغة جديدة، تواجه بها العدم، وتضمد بها هشاشتها. وقد رأى رولان بارت في الكتابة “حالة من التطهير”، كما ذكر في كتابه متعة النص، مؤكدًا أن اللغة لا تُستخدم فقط للتعبير، بل للمقاومة لذلك قال: “الكتابة ليست مجرد أداة، بل طقس من طقوس العبور نحو الذات”

العادة بين الانغلاق والخلق.. مفارقة الطقس اليومي

غير أن العادة، كما أشار إليها نيتشه، تحمل في ذاتها تناقضًا بنيويًا: فهي من جهة تعيد ترتيب الفوضى، لكنها من جهة أخرى قد تُغلق الأفق على الذات. فالاعتياد اليومي قد يُغرق الإنسان في تكرار يفقده ذاته، كما كتب في هذا هو الإنسان. لكنه أيضًا يرى أن تجاوز هذا التكرار لا يتم إلا من داخله، كما لو أن الإنسان يحتاج إلى العادة كي يخلق من داخلها فعلًا حرًّا. ولهذا حذر قائلًا: “احذروا العادة، فهي قد تُصبح سجنًا إن لم تحولوها إلى رقص”

حين تُصبح العادة تجسيدًا للحرية

تقدّم العادة نفسها كوسيلة لترسيخ وجود الإنسان في العالم، فهي لا تعارض الحرية بل تُنظّمها. في عالم متسارع ومفكك، تسمح الطقوس الصغيرة بتأسيس بنية نفسية ـ اجتماعية تحفظ الذات من التفكك. إنّ العادة ليست فعلًا هامشيًا بل شرط للكينونة اليومية، حيث تتجلى الحياة بأبسط صورها وأكثرها عمقًا. فالطقوس التي نظنها تكرارًا، كالمشي أو تحضير القهوة أو الكتابة، ما هي إلا إعلانٌ متجدد للوجود. إنها تقول للكون: نحن هنا، نعيد كل صباح ترميم ذواتنا بفعل نحفظه ونحبّه، ونقاوم به العدم.

***

د. آمال بوحرب 

في المثقف اليوم