أقلام فكرية

زهير الخويلدي: دومينيك ليكور بين المادية الباشلارية وفلسفة العلوم والمجتمع

"قد تكون النزعة الإنسانية مخبأة لنزعة انسانية أخرى".

يعتبر دومينيك ليكور فيلسوفًا فرنسيًا بارزًا في مجال فلسفة العلوم، اشتهر بتحليلاته النقدية لتطور الفكر العلمي وعلاقته بالمجتمع. تأثر ليكور بشدة بفلسفة غاستون باشلار، خاصة مفهوم "المادية العقلانية"، لكنه طوّر مقاربة خاصة تمزج بين تحليل الخطاب العلمي والسياقات الاجتماعية والسياسية. تتناول هذه الدراسة أفكار ليكور في سياق المادية الباشلارية، مع التركيز على إسهاماته في فلسفة العلوم والمجتمع، من خلال مقاربة معرفية نقدية تستعرض نقاط التقاطع والاختلاف مع باشلار، وتفحص دوره في نقد الايديولوجيات العلمية، فماهي الخلفية الفلسفية التي ينطلق منها دومينيك ليكور في بناء المعرفة العلمية؟

1. المادية الباشلارية كإطار نظري

مفهوم المادية العقلانية عند باشلار:

قدم غاستون باشلار (1884-1962) مفهوم "المادية العقلانية" كإطار يجمع بين العقلانية العلمية والتجريبية. رأى أن العلم يتقدم عبر "قطائع معرفية" تفصل المعرفة العلمية عن المعرفة العامية أو الخيالية. لقد أكد باشلار على أهمية التاريخية في العلم، حيث يتطور المفهوم العلمي عبر التغلب على "العوائق المعرفية" الناتجة عن الأفكار المسبقة أو التصورات غير العلمية. كما دعا في كتابه التكوين العقلي للعلم (1938) إلى تحليل نفسية العلماء ودور الخيال في دفع الإبداع العلمي.

تأثير باشلار على ليكور:

تبنى ليكور فكرة القطيعة المعرفية، لكنه وسّعها لتشمل السياقات الاجتماعية والسياسية. في كتابه الليسينكوية (1976)، حلل كيف يمكن للايديولوجيا أن تعيق التقدم العلمي، مستلهمًا منهج باشلار النقدي.

على عكس باشلار الذي ركز على البعد المعرفي، اهتم ليكور بتأثير العوامل الخارجية (مثل السلطة السياسية) على تطور العلم.

2. دومينيك ليكور وفلسفة العلوم

إسهامات ليكور:

في كتابه من أجل نقد الايبستمولوجيا ( 1974)، نقد ليكور النزعات الوضعية في فلسفة العلوم، التي ترى العلم كتطور خطي ومحايد. رأى أن العلم ليس معزولًا عن السياقات الاجتماعية والتاريخية.

قدم ليكور تحليلًا لتاريخ العلم يركز على "المشكلات" بدلًا من النظريات المعزولة، معتبرًا أن العلم يتطور عبر إعادة صياغة الأسئلة في سياقات جديدة. في كتاب الليسينكوية، فحص حالة تروفيم ليسينكو، العالم السوفييتي الذي فرض نظريات بيولوجية مدفوعة بالايديولوجيا الستالينية، كمثال على كيفية تشويه العلم بتأثير السلطة السياسية.

المنهج النقدي:

استخدم ليكور منهجًا ماركسيًا معدلًا، مستلهمًا من لوي ألتوسير، لتحليل العلاقة بين العلم والايديولوجيا. رأى أن العلم ليس مجرد إنتاج معرفي، بل هو ممارسة اجتماعية تخضع لتأثيرات السلطة والطبقية.

نقد التصورات المثالية للعلم، مثل تلك التي قدمها كارل بوبر، معتبرًا أنها تتجاهل السياقات المادية والاجتماعية التي تشكل المعرفة العلمية.

3. العلوم والمجتمع عند ليكور

العلاقة بين العلم والايديولوجيا:

رأى ليكور أن العلم، رغم طابعه العقلاني، يمكن أن يُستخدم كأداة ايديولوجية. في حالة ليسينكو، أظهر كيف فرضت الايديولوجيا السياسية نظريات بيولوجية غير علمية، مما أدى إلى كارثة زراعية في الاتحاد السوفييتي.

دعا إلى فصل الممارسة العلمية عن التأثيرات الايديولوجية، مع الإقرار بأن العلم لا يمكن أن يكون محايدًا تمامًا بسبب ارتباطه بالمجتمع.

دور العلم في المجتمع:

في كتابه الطبقة العاملة والمعرفة (1979)، ربط ليكور بين تطور العلم والصراعات الاجتماعية، معتبرًا أن العلم يمكن أن يخدم مصالح طبقية معينة إذا لم يخضع لنقد دائم.

دعا إلى "ايبستمولوجيا نقدية" تراقب العلاقة بين العلم، السلطة، والمجتمع، مع الحفاظ على استقلالية الممارسة العلمية.

4. مقاربة معرفية نقدية: ليكور مقابل باشلار

نقاط التقاطع: كلاهما أكد على القطيعة المعرفية كآلية للتقدم العلمي. باشلار ركز على القطيعة بين المعرفة العلمية والخيالية، بينما وسّع ليكور المفهوم ليشمل القطيعة مع الايديولوجيا.

كلاهما دافع عن العقلانية العلمية، لكن مع الاعتراف بدور الخيال (باشلار) أو السياق الاجتماعي (ليكور) في تشكيل المعرفة.

نقاط الاختلاف: التركيز المعرفي مقابل الاجتماعي: ركز باشلار على البنية الداخلية للمعرفة العلمية (مثل العوائق المعرفية)، بينما اهتم ليكور بالعوامل الخارجية (السياسة، الايديولوجيا، السلطة).

المنهج التاريخي: باشلار حلل تاريخ العلم كتطور داخلي للمفاهيم، بينما رأى ليكور أن التاريخ العلمي متشابك مع التاريخ الاجتماعي والسياسي.

العلاقة بالماركسية: تبنى ليكور منظورًا ماركسيًا معدلًا (تأثرًا بألتوسير)، بينما كان باشلار أقل اهتمامًا بالتحليل الاجتماعي-السياسي.

نقد ليكور لباشلار: رأى ليكور أن نهج باشلار، رغم أهميته، يفتقر إلى تحليل العوامل الاجتماعية التي تشكل العلم. على سبيل المثال، لم يتناول باشلار كيف يمكن للسلطة السياسية أن تعرقل التقدم العلمي، كما في حالة ليسينكو.

5. تحليل نقدي: إسهامات ليكور وحدوده

االإسهامات: أسهم ليكور في إعادة تعريف فلسفة العلوم كمجال يتجاوز التحليل المنطقي إلى فحص السياقات الاجتماعية والسياسية.

قدم مفهوم "الايبستمولوجيا النقدية"، الذي يدعو إلى مراقبة العلم كممارسة اجتماعية دون التقليل من طابعه العقلاني.

نقده للايديولوجيا في العلم (مثل الليسينكوية) قدم درسًا تاريخيًا حول مخاطر تدخل السياسة في الممارسة العلمية.

الحدود: تركيزه المفرط على الايديولوجيا قد أدى إلى إغفال بعض الجوانب الداخلية لتطور العلم، مثل ديناميكيات المفاهيم العلمية التي أكد عليها باشلار.

تأثره بالماركسية جعل بعض تحليلاته منحازة إلى تفسيرات طبقية، مما قد يقلل من شمولية مقاربته.

لم يقدم ليكور نموذجًا منهجيًا واضحًا لتطبيق "الايبستمولوجيا النقدية" في دراسة العلوم المعاصرة، مما جعل أفكاره نظرية أكثر منها عملية.

خاتمة

يمثل دومينيك ليكور امتدادًا نقديًا لفلسفة غاستون باشلار، حيث وسّع مفهوم المادية العقلانية ليشمل البعد الاجتماعي والسياسي للعلم. من خلال تحليله لعلاقة العلم بالايديولوجيا والمجتمع، قدم ليكور إطارًا لفهم العلم كممارسة تاريخية واجتماعية، وليس مجرد نشاط عقلي محايد. ومع ذلك، فإن تركيزه على الايديولوجيا قد قلل من أهمية الجوانب الداخلية لتطور العلم. مقاربته النقدية تظل ذات قيمة في تحليل العلوم الحديثة، خاصة في سياقات تتداخل فيها السلطة والمعرفة. تطبيق منهجه على العلوم العربية الإسلامية يمكن أن يكشف عن ديناميكيات مماثلة بين العلم والمجتمع في تلك الحقبة، مؤكدًا على أهمية السياق الحضاري في تشكيل المعرفة. فكيف يمكن الاستفادة من مقاربة ليكور المعرفية النقدية من اجل اعادة قراءة التراث العلمي عند العرب والمسلمين؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

المراجعدومينيك ليكور، من أجل نقد الايبستمولوجيا (1974).

دومينيك ليكور، الليسينكوية (1976).

غاستون باشلار، التكوين العقلي للعلم (1938).

لوي ألتوسير، من أجل ماركس (1965).

ماري تيليز، فلسفة العلوم في القرن العشرين (ترجمة عربية، 2000).

في المثقف اليوم