قراءات نقدية
سعد محمود شبيب: إنعام كمونه.. شعر لاهب وفكر ثاقب

في زوايا العتمة بصيص نور اشتياق
لا ينطفئ كشعلة فنار يردد
البحر هائج من لوعتي
وقوارب لهفتي تنزاح
عن كثب لقياك
وأنا مدى ذكرى تموج
خليلة هواك...
من اليسر ان تمسك بالقلم وتخط ما يحلو لك، ومن العسر أن تنال إعجاب من يطالع لك. في ذلك العالم الصعب المراس، الوعر المسالك، الذي لا يهب سره بيسر الا لمن أمتلك مقومات الأديب النادر.
لا تبوح الشاعرة العراقية إنعام كمونة بهذا الانجاز، بل هي لا تفتأ تشيد بجهود رائدات الشعر الكبيرات، الرائدات منهن والمعاصرات، امثال لميعه عباس عمارة وسواها، وتذكر الاخريات دوما وانجازاتهن الكبيرة عند عالم الابداع النسوي في دراسات راقية خلابة..
غير أن كثيرا من النقاد، وكل من طالع لها ديوانها (اصطفيتك همسا) يؤكد انه يقرأ نمطا جديدا من فن الشعر غير معهود من قبل، وانهم أزاء شاعرة وكاتبة استثنائية بكل المقابيس، صاحبة قلم إختلف المتخصصون في بيان كنهه، واتفقوا على روعته وتساميه وندرة صياغته وحبك نسيج لغته:
أصطفيتُكِ همساً
يوما..
الصبح ناعس الهمس
يداعب وجه الضباب بصبوة الغزل
صفقتنا كفوف النوى على خدّ أحلامك
أفترشتنا جهات الفجأة..أطياف ممزقة
تناثرت ارواحنا.. أشلاء نحيب
أغتالت شهقاتك الغضة خطوات رحيل
غفلة … غفلة
ياااا طفلتي الغافية بمخمل أحضاني
فرت أنفاسك إلى رميم أضلعي الواهية
وأنات أشجاني
آآآه كيف داهم حرير روحك فحيح عتمة
وأنا أعدّ كواعب ترفك على مهل أوجاعي
أهتزّ مهد عطرك بخلّة ليل ضرير
ياااا طفلتي المبعثرة
تعااالي.. أضمك برق أفول
كغيمة أثكلها عطش الأنتظار
كبرق خاطف بمطر يابس
لا تفزعي من خضاب الذبول
مهما أرّقك ضنين الفراق
أنا جهينة قطاف لنسغ دمك
أُلملم جروحك بيد كافور الغياب
أحتضن بقايا نبضك ألموشوم بدموع البراءة
أُقبّل كركرة أحلامك بصراخ جوارحي
وإن اصطبغت حناجرنا بالوان الهلع
وإن داهمنا غدر فجيع خاطف
انتزع أنين مبسمك الهادئ
ها نحن بمآقي خصر الغياب.. طيور نهاجر
ضمّة حزن نستريح.. بقربنا اللامتناهي
تهدهدك أحضان نوحي..مناجاة حنين
وأنتِ ترفلين في مهاد الغياب
سلكت روحي دروب أجنحتك المتكسرة
كجمانة وجد بأقاليم الضياء
ااااه لسعير أنّاتي المصتصرخة زمن الرجوع
كم خضبتُ أنفاسكِ بأعشاش أحشائي
وَشَمتُ اسمك بشرايين روحي
اصطفيتُكِ همسا شغف حنين
قرأتكِ أحلامي بيلسان مشيب
ساحتضن روحك بأنين عمركٍ اليافع الدفء
زُغب فراشات معطرة الصبا
وأمضي بك وجعا بأريج لقاء
لترضعي حليب الخلود نجمة سرمدية
سنطيــــــــــــر
و...نطيرررررر...
نولد من ذاكرة الكون...
يمامة بيضاء وسنبلة ندية
مختومة بصوت السماء
مدى حريــــــة
مكلومة الهوية
إنعام كمونة.. سيرة حياة.
ما بين مسقط رأسها، وموطن شبابها وذكرياتها وصويحباتها، وجنوب العراق، حيث عشقها للهور وحرية تحليق الطيور، كانت روح الأديبة تتنقل وتتآلف جماليا بين بيئة واخرى، تتوارى بين أسطر الفلاسفة وكبار الادباء متلفعة بطيات عيون كتب الأدب وهي تتطلع دوما نحو الخير.. رمز القداسة الإنسانية الاكبر، ولا تكاد تجد معشوقا لديها سوى الشعر الذي ابتدأت به كبيرة وظلت تكبر وتكبر دون ان تشيخ البتة.
ولعل اكثر ما لفت نظرها وهي ماكثة في قلب الشعر، هو ذلك التناقض المهول بين مواضيع القصائد، فالشعر وجودٌ يضم الجبل الشاهق بقمته، والوادي السحيق بعمقه، تختفي معالم الوجود عند القمة كما تذوي وهي بين طيات القعر، وكيف يبدو الجبل قريبا وهو على بعد شاسع، مما ولّد لديها فلسفة أدبية خاصة، جعلت افكارها تتجلى بوضوح وهي تصطف الى جانب الشمس تارة، وتتلفع تارة أخرى بغموض مدهش، وتغوص بشكل يصيب القاريء بالحيرة والتفكر، واللذة في آن واحد !!
ربطتها صداقات عميقة مع من اختارتهن من صوحيبات، فكانت تنظر الى كل صاحبة منهن على انها قصة انسانية كاملة صاغها الزمن، تختزن منها الجانب الذي ينمي عشقها لخوض تجربة الادب، دون ان تتخلى عن انسانيتها في التعاطف معهن وكتم أسرارهن بحال من الأحوال، لتبدع في فن السردية التعبيرية كما ابدعت في سواه من فنون الادب:
(لا أُجيد رتق التهجي من فصاحة الوجود، ولا أخدش قريحة اللفظ في ذهن المشاعر، لكن يعمدني ماء الفضول فاصطاد فوارس الكلمات بنفير أصابعي، أنا لست بشاعرة لكن عنان حلم يفوح بمرآة وهم العنوان، هكذا أنا حين تسيل بين أناملي همزات وصل شاعرية وتلتف حول معصمي بنبض تمرد، تضج ترانيم عشقي لشناشيل لغة مكتظة الحنين منذ مهد أبجديتي، يسامرني شاهين الخيال بصورة شعرية آسرة التوق، أضمها الى تلابيب الإنزياح حتى تحتدم قُبل الدلالات)!!!
كانت كمونة ومنذ سنوات صباها ترفض القوالب الجاهزة والصيغ المعتقة، مثلما عارضت التنمر والتحجر، وسخّرت جزءا مهما من ادبها نصرة قضايا بنات جنسها.
تغنت بالاهوار، ليس من باب التغني بالجمال فحسب، بل معايشة منها لمكابدات اهلها وقد جف ذلك النبع الذي يهديهم الرزق والحياة الكريمة، فعايشت مآسيهم ونسجتها بأطيب القصائد وهي تعقد علاقة عشق مع سكانها الاطياب، وطيورها ومشاحيفها الآمنة. ذاك انها ووفق فلسفتها الخاصة تجد أن الخير لا يتجزأ، والشر لا يتجمل، وليس انسانا من لم يتضامن مع قضايا المظلومين.
نجاح إنعام كشاعرة جعل منها علامة من علامات الشعر، واقتدارها كناقدة جعل منها ايقونة تحليل نادره، وجميع عوامل الإنسانية والابداع جعلت منها نخلة باسقة من نخيل وادي الرافدين، وتلك هي المبدعة التي تركت وتترك اثرا من ذهب، على ثرى أرض الرافدين، ونهريها الخالدين.
كيف راودك الظمأ سيدي
ومهر سيدة النساء (فاطمة الزهراء)
فيروز الفراتين..؟
كيف أدرك عيالك العطش
والفرات يرضع من أنامل عصمتكم
حلاوة شهد..!!
فقراح دمك أثكل ماء الزمن
ودمك المسفوح يروي
ظمأ نهر العلقمِ
للآن يفيض سلسبيل دمعهِ
من طهر دمك العذبِ
فانبلج نصرك نبراس الضياء
فجرا سرمديا
يرتدي عشبة
قربان الخلود
يستحم
ضمير النصر
في قداسة الذاكرة
نورا... يتوضأ
***
سعد محمود شبيب