أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هل العقل يحطم المجتمع؟

تجدر الإشارة ان فكرة وجوب تحطيم العقل للمجتمع ليست من ضمن الإجماع الفلسفي السائد، وانما هي مفهوم جرى استطلاعه في النظرية النقدية وما بعد البنيوية وأدبيات العالم اللاطوباوي، وتشير الى ان العقل المحض (المنطق البارد) يمكنه ان ينزع العناصر الإنسانية – التقاليد، العواطف، الايمان، الأسطورة – التي تشد الجماعات الى بعضها بحيث يقود الى العزلة والتحكم المفرط والتشظي الاجتماعي وضياع المعنى وبالتالي إضعاف النسيج الإنساني للمجتمع الذي يدّعي العقل تحسينه.

يتساءل المفكرون هل ان العقلانية الراديكالية تخلق أنظمة عقيمة وسلطوية تعطي قيمة للكفاءة بدلا من الإنسانية، بحيث تؤدي بالنتيجة الى انهيار مجتمعي من خلال تجريد الصفة الإنسانية.؟

الحجج الأساسية للتأثير المدمر للعقل

1-  الاغتراب وتجريد الناس من الإنسانية: أنظمة العقلانية المفرطة تختزل الناس الى وحدة معلوماتية تتجاهل الحاجات الإنسانية المتفردة والعواطف والأبعاد الروحية وهو ما يقود الى اغتراب عميق.

2-  ضياع التقاليد والمعنى: العقل عادة يتحدى العقائد التقليدية والطقوس والاساطير التي تمنح المجتمعات التماسك والهدف ،الامر الذي يترك فراغا يجب ملؤه من جانب العقل.

3-  الحكم الشمولي: الاندفاع نحو نظام تام وكفاءة من خلال العقل يمكن ان يبرر مراقبة صارمة وسيطرة (التكنوقراط او حوكمة الذكاء الصناعي)، وهو ما يسحق الحرية الفردية.

4-  تآكل التعاطف: التركيز فقط على الحسابات الموضوعية يمكن ان يزيل التعاطف والشفقة والحدس الأخلاقي الضروري لروابط اجتماعية صحية.

5-  القفص الحديدي (ويبر): حذّر ماكس ويبر من ان العقلانية خاصة البيروقراطية تخلق قفصا حديديا (iron cage) من القواعد والإجراءات تخنق الإبداعية والتلقائية والارتباط الإنساني الحقيقي بما يجعل الحياة بلا معنى.(1)

موقف ستيف فولر: العقل يدمر المجتمعات

حاول العديد من المفكرين تأسيس النظام الاجتماعي على العقل. لكن ستيف فولر steve fuller، بروفيسور الأبستمولوجيا الاجتماعية في جامعة وارويك Warwick البريطانية ومؤلف (الإعلام وقوة المعرفة،2025) يرى ان هذه المحاولات محكوم عليها بالفشل. العقل بطبيعته غير اجتماعي، لأنه يعامل مؤسسات المجتمع – سواء كانت نظاما سياسيا او نموذجا علميا scientific paradigm كترتيبات مؤقتة. العالم كما هو معرّض للعين النقدية للعقل، يحمل قيمة فقط كوسيلة لغايات عليا. وبهذا، فان العقل ليس أداة للاستقرار وانما محفز لثورات دائمة.

لماذا عندما يتولى الكائن العقلاني مسؤولية أي شيء، تحدث بعدها نتائج اجتماعية مدمرة؟ العالِم الأحادي الذهن وخبير الكفاءة والآلات الفائقة الذكاء يجسدون أمثلة مألوفة عن الواقع والخيال على حد سواء. في الوقت الراهن، من السهل اختزال المشكلة الى مجرد افتقار “الناس للمهارة “، والتي قد يتم تشخيصها ضمن مشاكل التفاعل الاجتماعي. لكن المشكلة تكمن في منطق العقل ذاته.

منطق العقل بالنهاية هو حول تجسيد فكرة (لو اعتمدنا على مصطلحات افلاطون) او ادراك الممكن (لو اعتمدنا على لغة ارسطو العضوية). في كلتا الحالتين، انه يتألف من جزئين: تحديد الغاية وتحديد وسائل الغاية. نقد ملكة الحكم لكانط حقق عدالة لكليهما، حيث وضع اطارا تُفهم فيه الأفكار الحديثة للتقدم. مع ذلك، نحن نستطيع ان نرى كيف يكون العقل لا اجتماعيا بقدر ما يتعامل مع النظام الاجتماعي ليس كغاية بذاته وانما كوسيلة لتحقيق غايات أخرى.

عندما استخدم عالم الاجتماع ماكس ويبر لأول مرة اتجاهه في العقل، لاحظ بسرعة ان مجتمعات ما قبل الحداثة لم تفكر بهذا ابدا. هم قبلوا في طبيعية معايير وتوقعات معينة فقط بالارتكاز على قدرتهم على البقاء بمرور الزمن. هو اطلق على هذه المجتمعات بالمجتمعات "التقليدية". علاوة على ذلك، هو اعتبر بعضا منها "غير عقلانية" حينما لم يستطع السكان الاصليون تبرير انشطتهم بما يتجاوز الاستناد على التقاليد.

وراء تمييز ويبر بين "العقلاني" و "غير العقلاني" يكمن اختلاف عميق في الكيفية التي يرتبط بها الناس بمجتمعاتهم. في المجتمعات اللاعقلانية، يتم استقبال الناس والاعتراف بهم وفقا لأدوار محددة، جميع الأعضاء يفهمونها ويقبلون بها اذا أرادوا البقاء. بالمقابل، في المجتمعات العقلانية، الناس يعتبرون انفسهم صناع للنظام الاجتماعي وبالتالي يجب تبرير ممارسات المجتمع تبعا لتعزيز مصالح أعضائه سواء الان او في المستقبل.  يرى ويبر وكذلك معظم مؤسسي علم الاجتماع ان التفاعلات تحصل عندما لم يعد القانون يجبر الافراد لتولّي وظائف آبائهم  بل يسمح لهم بهوية شخصية اكثر تفاعلية. وهكذا، انا يمكن ان أكون مختلفا امام مختلف الناس وفق اتفاق متبادل. المرء كزوج وعامل أصبح رمزا لأشياءً مختلفة قانونا. ان منطق التبادل الذي ينعكس في هذا السياق كان أساس نظرية العقد الاجتماعي التي تبقى حجر الزاوية لكل من الفكر السياسي والتعليم القانوني في المجتمعات الليبرالية. تفاصيل العقد تضمن عقلانية الاتفاق.

حتى الان كل شيء جيد، ما عدى انه حالما تتم كتابة العقد، ستُكشف تماما إمكانيات خرقه. مفاهيم ما قبل الحداثة مثل "ثقة" و "فضيلة" ربما يتم تقديمها بحسن نية لتضمن ان العقد لا يُقرأ بصرامة بحيث يصبح غير قابل للتنفيذ. متى ما حصل هذا، فهو عادة بسبب ان الناس اما لا يستطيعون القراءة جيدا او لا يقرؤون بعناية او ربما لا يريدون القراءة ابدا. السياسات الحديثة وجدت ستراتيجية الحل البديل بشكل عرض دوري للمسائلة العامة كما في الانتخابات.

مع ذلك، اذا كان الناس يُدعون بانتظام او ربما يُجبرون ليقرروا ما اذا كان الحكام أوفوا بوعودهم السياسية، هناك دائما فرصة لتغيير المسار بشكل جذري. لننظر في التغيير الجذري في المجتمع الذي نتج عن عملية اجراء انتخابات، لنقل، لأدولف هتلر او دولاند ترامب. سر نجاحهما جزئيا تطلّب تقسيم الناس ضد النظام السياسي والمؤسسات القائمة، كما في إشارة ترامب المتكررة للعاصمة الامريكية الفيدرالية بـ "مستنقع" و "الدولة العميقة". بعض الراديكاليين المنتخبين ديمقراطيا ذهبوا بعيدا ونجحوا في استبدال دساتير دولهم، وهو التمزيق النهائي للعقد الاجتماعي. لا هتلر ولا ترامب ذهبا الى هذا الحد. المسألة الأكبر هنا هي عند التفكير حول المجتمع "عقلانيا" يكمن الهدف في النظر الى اطاره المؤسسي الحالي باعتباره مجرد وسيلة لتحقيق أي غاية يرغب افراد المجتمع في السعي لتحقيقها سواء كانوا افرادا او جماعات. من الواضح، كل الخلاف بين الرأسمالية والاشتراكية يعتمد على هذا الاختلاف الأخير. مع ذلك، كل جانب يشترك بفكرة ان الناس الذين يخلقون ويحافظون على المؤسسات يأخذون أسبقية على المؤسسات التي خلقوها وحافظوا عليها. اذا كان المجتمع يُحكم عليه ليس من أعضائه الحاليين، هم يجب ان يعيشوا في المستقبل وليس في الماضي.

طرحْ الموضوع بهذه الطريقة يشير الى الإمكانات الثورية للفكر العقلاني. ماكس ويبر ذاته اعتقد ان العلوم والسياسة في العصر الحديث تميزتا بأشكال مكملة للعقلانية.

***

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) هناك حجج مضادة اعتبرت العقل ضروريا منها 1- العقل يقود العلم والطب والتكنلوجيا ويحل مشاكل العالم الواقعية مثل الامراض والجوع والفقر 2- العدالة والأخلاق: الأطر الأخلاقية العقلانية مثل حقوق الانسان تتحدى التحيّز واللامساواة والقسوة اللاعقلانية بهدف خلق مجتمع اكثر عدالة. 3- التصحيح الذاتي: العقل يسمح للمجتمعات بتشخيص العيوب، وتقديم حلول من خلال النقاش والتطور بما يمنع الجمود. لابد من ملاحظة ان النقاش أعلاه ليس حول إلغاء العقل وانما حول العقل المفرط بلا ضوابط. العديد من المفكرين يرون ان المجتمع الصحي يحتاج توازنا : عقل للبناء والتحسين والتصحيح، وأيضا عواطف وروحانية وإنسانية لتوفير المعنى والترابط والروح ومنع المنطق من ان يصبح قوة تدميرية.

 

في المثقف اليوم