قراءات نقدية

بولص آدم: قراءة نقدية لنص "حضور السيدة البابلية" للشاعر يونس توفيق

نص الشاعر يونس توفيق، حضور السيدة البابلية، ينتمي إلى الشعر المعاصر بطابعه الحلمي والمتخيل، حيث ينسج الشاعر رؤيته لمملكة العاطفة والجسد والذاكرة في فضاء شعري غني بالصور والرموز، متماهياً مع التجربة الإنسانية في الحب والفقد والحنين إلى الذكريات المتوارثة. يمثل النص رحلة شعورية متواصلة تبدأ من واحة الذاكرة، لتصل إلى أعماق العشق والمواجهة الذاتية مع الألم والغربة، مروراً بالخيال والأسطورة.

في افتتاح النص، يقدم الشاعر الذاكرة المهجورة كفضاء انطلاق لحضور المرأة، موحياً بأن الخيال والعاطفة يولدان من هذا الفضاء:

من واحةِ ذاكرتي المهجورةِ

تولدُ سيدة الأقمارِ الخضر

وتُشرقُ مُزهرةً في أحلامي.

تتسم الصورة الشعرية بالتركيب الحلمي، حيث تتخذ المرأة، أو السيدة البابلية، هيئة رمزية: هي القمر، هي الزهرة، هي القوة التي تهب الحياة إلى أحلام الشاعر. هذه البداية تكشف عن اهتمام الشاعر بالمقدس في الحب والجمال، إذ تتحول المرأة إلى رمز يتخطى حدود الزمن والمكان.

يتواصل النص مع جسدية المرأة وحضورها القوي، حيث يمتزج الحب بالرغبة والطقوس، فتتضح قوة التأثير الشعوري والوجداني:

تتماسكُ كالغيم المتأججِ،

تبرقُ في جسدي

تمتدُّ سريعا

حتى آخرَ رعشةَ حُبٍّ:

تقطرُ في غاباتِ وجودي

ثمّ تُعاودني كالحمّى.

يُلاحظ أن التركيب الشعوري يعتمد على الحركة المتسلسلة: امتداد، تقطر، تعاود. هذا الأسلوب يعكس التفاعل النفسي والجسدي للشاعر مع حضور الآخر، ويحوّل النص إلى فضاء طقسي تتداخل فيه الرغبة بالمعرفة الذاتية.

تستمر المرأة في النص ككائن حي، له تأثير مباشر على إدراك الشاعر وحواسه، ما يجعل النص يحمل جماليات صوتية ومرئية متزامنة:

أنصتُ مشـدوها:

أتَحسَّسُها تتَحرّك،

تجرحُ جلدي بالعطرِ المتصاعدِ

من لهَبِ العينين

وتخرقُ رأسي بالنغمِ الشرقيِّ،

وبالشِّعرِ المهووس بإيقاعِ الحركات

وأنفاس الكلمات.

ينسج النغم والإيقاع تجربة حسية متكاملة، حيث تتداخل العين، الجلد، الرأس، الشعر والحركة لتوليد شعور شعوري عميق. يحول الشاعر الحب والرغبة إلى طقس شعري شامل يجمع بين الجسد والروح واللغة.

النص لا يغفل البعد الأسطوري والتاريخي، حيث يذكر البخور والمعابد البابلية، في مشهد يعكس امتزاج العشق بالذاكرة الجماعية:

في المدخلِ

صارت نَحتاً محفوراً

بأنين عذاباتِ الزّمنِ الممزّقِ،

صارت قُرباناً يَتحوّرُ

تحتَ بخورِ معابدَ بابلَ

والصّلَوات...

هنا تتحول التجربة الفردية إلى تجربة تاريخية-أسطورية، إذ تمتزج العاطفة بالبعد الحضاري والثقافي، لتصبح المرأة حضوراً روحياً يعكس تلاحم الزمن الشخصي مع التاريخ الكبير.

الشاعر يواصل بناء طقوس العشق، مستخدماً استعارات الجسد والمسك والعناق المحموم، لتضفي بعداً شعورياً وطقسياً كثيفاً:

كالمِسكِ يموعُ الخَصرِ

ويلتَهِبُ الجسدُ العاري

في طَلسمِ كلِّ عناقٍ محمومٍ.

ألقاني أسكنها،

أتملّكُ لونَ صِباها

مُنتحلا شكل المعشوقِ

وسيف العاشق.

يتجلّى هنا التناوب بين التملك والانصهار، حيث يتماهى العاشق مع المحبوب، ويرتقي النص إلى طقس شعوري مكثف، تصنعه لغة غنية بالصور الجسدية والرمزية، تعكس الاحتراق الداخلي والولادة المتجددة في الحب.

المرأة في النص تتحرك بحرية وتخرج عن نطاق السيطرة، ما يعكس الخيبة والفقد، كما يظهر في المشاهد التالية:

من عالمِ غيبتِها تأتي:

تتمطّى كالطيرِ المعتوقِ؛

تغنّي،

ترقُصُ حولَ النّارِ:

كأسرابٍ من مَرجانٍ ورديّ

تلمعُ

ثمّ تعاودُ رحلتها.

تكرار الحركة بين الهروب والعودة يضفي ديناميكية مستمرة على النص، ويخلق توتراً شعورياً بين الرغبة في التملك والاستسلام للغياب.

في المقاطع الأخيرة، يتحول النص إلى تجربة العزلة والغربة، حيث يمتزج الحب باللوعة والحنين، ليبرز البعد المأساوي للشاعر:

مجنونا أبحثُ عنها في آلامِ العشّاقِ

وأركضُ بينَ غياهِبِ أوجاعي،

أتحرّقُ تحتَ صقيعِ الغربةِ

في طرقِ الليلِ المهجورةِ،

أصرخُ ثورة حبّي في قلبِ الفجرِ الغافي،

أبكي سـنوات الوحدةِ،

والتّرحال.

يتجلّى التناقض بين الاقتراب والهروب، بين التعلق والانصراف، ويبرز حضور الحب كقوة تمزّق الروح والجسد. الغزالة الرمزية تمثل شغفاً لا يمكن الإمساك به، فيما يظل الشاعر في مواجهة الوحدة والصمت، جامعاً بين الألم والجمال في تجربة شعورية مكثفة تعكس قدرة النص على تحريك العاطفة والمخيلة:

حبّي كالريحِ يمزّق صدري

مثل البحرِ ينازعُ فيَّ

وينخرُ روحي حتى العَظمَ...

أضيعُ وحيداً في غاباتِ الخوف،

وأسرحُ خلفَ غزالَةَ عشقي

أمنحها أسرار وجودي

والدمعَ المتفتّح في أحشائي...

أتقرّبُ منها مرتعشا،

أتلمّسُ وجنتها،

شفتَيها...

تضحكُ،

تهرُبُ،

ثمَّ تغيبُ وراءَ سهول الصمت...

بهذه الطريقة، يظهر يونس توفيق في حضور السيدة البابلية مهارة فائقة في تحويل تجربة الحب والشوق إلى لوحة شعرية متكاملة، تجمع بين الإحساس الحسي والعاطفي، وبين رمزية العشق والألم، لتقدم نصاً حياً، نابضاً بالوجد، ومفتوحاً على قراءات متعددة الأبعاد بين الحب والفقد والوجود.

يمكن القول إن النص متماسك من حيث البنية والرمزية، إذ تبدأ الرحلة من الذاكرة الفردية، تتوسع عبر الحب والرغبة والجسد، وتمتد إلى المقدس والأسطورة التاريخية، ثم تنتهي بتجربة الوحدة والغربة، في تركيب شعري يشبه طقساً شعورياً متكاملاً. حضور السيدة البابلية نص مؤثر للغاية، غني بالصور السيميائية والرمزية، مبدع في استخدام اللغة لتحويل الحب والمعاناة إلى تجربة شعورية وجمالية، ويعكس حساسية الشاعر العالية تجاه الزمن والذاكرة والوجود الفردي، مؤكداً مكانة المرأة كحاضرة أسطورية في عالمه الشعري.

السيرة المختصرة للشاعر

يونس توفيق (يونس صديق الحمداني) شاعر وروائي وناقد وأكاديمي عراقي، وُلد في الموصل عام 1957 ويقيم في إيطاليا. تخرج من جامعة تورينو عام 1986 وحصل على الماجستير في الآداب.

أصدر عدة روايات مهمة منها "الغريبة"، "مدينة إرم"، و"اللاجئ"، بالإضافة إلى أعمال شعرية مثل "حضور السيدة البابلية" و"القمر بين اليدين"، ودراسات لغوية وتاريخية مثل "السلام عليكم" و"إسلام".

نال جوائز أدبية مرموقة في العراق وإيطاليا، ويكتب في صحف إيطالية كبرى. يرأس المركز الثقافي العربي-الإيطالي "دار الحكمة"، ويُدرّس الأدب العربي في جامعة جنوة منذ 1999. كما ساهم بترجمة ونشر التراث العربي الكلاسيكي إلى الإيطالية، مقدمًا أعمال الجاحظ والغزالي وابن عربي وجبران خليل جبران.

***

بولص آدم

في المثقف اليوم