اخترنا لكم

محمد البشاري: هندسة العقل الفقهي في زمن الذكاء الاصطناعي

يشهد عالمنا اليوم ثورة معرفية غير مسبوقة، تقودها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتعيد تشكيل أنماط الحياة والعمل والتفكير. هذه التحولات السريعة لم تقتصر على الاقتصاد والسياسة والعلوم، بل امتدت إلى ميدان القيم والدين، لتطرح على الفقه الإسلامي أسئلةً جديدة، ولتضع العقلَ الفقهي أمام تحديات لم يعرفها من قبل.

لقد اعتاد الفقهاءُ عبر القرون أن يستنبطوا الأحكامَ في بيئة معرفية واجتماعية يمكن استيعابها من خلال أدوات الاجتهاد الموروثة. أما اليوم، فنحن أمام وقائع هجينة، رقمية الطابع، تتجاوز الحدودَ المكانيةَ والزمانية، وتولِّد إشكالاتٍ فقهيةً لم يسبق لها مثيل: من العقود الذكية والعملات المشفرة، إلى الروبوتات والأنظمة الخوارزمية التي تتخذ قرارات تؤثر في حياة البشر. وفي خضم هذا المشهد، يبرز السؤال: كيف يمكن للعقل الفقهي أن يحافظ على أصالته، ويطور في الوقت نفسه أدواته ليتعامل مع هذا الواقع الجديد؟

 إن هندسة العقل الفقهي في زمن الذكاء الاصطناعي لا تعني القطيعةَ مع التراث، ولا الانبهار الأعمى بالتقنية، بل تعني بناءَ منظومة معرفية متكاملة تجمع بين رسوخ العلوم الشرعية، وفهم البيئة الرقمية، والوعي الأخلاقي، والبصيرة الاستشرافية. وهذه المنظومة تقوم على أربعة محاور أساسية.

 وأول تلك المحاور هو التأصيل الشرعي العميق، إذ لا غنى للعقل الفقهي عن الإحاطة بأصول الاستنباط ومقاصد الشريعة وفروع الفقه، مع القدرة على تنزيل الأحكام على الوقائع المستجدة. فالفقه بلا أصول يصبح ارتجالاً، والاجتهادُ بلا مقاصد يتحول إلى نصوص جامدة قد تعجز عن تحقيق المصلحة أو درء المفسدة.

 وثانيها الوعي الرقمي؛ فالفقه في عصر الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن ينعزل عن فهم التكنولوجيا التي تصوغ حياة الناس. والمفتي الذي لا يعرف كيف تعمل العقود الرقمية أو العملات الافتراضية أو تقنيات الذكاء الاصطناعي، لن يستطيع أن يتصور المسألةَ تصوراً صحيحاً، والحكم على الشيء فرع عن تصوره.

وثالثها النزاهة الأخلاقية؛ فالفتوى ليست مجرد نتاج معرفي، بل هي أمانة ومسؤولية أمام الله والمجتمع. ومع انفتاح منصات الفتوى عبر الفضاء الرقمي، زادت الضغوط على الفقيه، سواء من الرأي العام أو من المصالح الاقتصادية والسياسية. وهنا تبرز أهمية الضمير الفقهي المستقيم، القادر على مقاومة الهوى والحفاظ على استقلالية الفتوى ونقائها.

أما المحور الرابع والأخير فهو البصيرة الاستشرافية، ذلك أن الذكاء الاصطناعي لا يطرح تحدياته على الحاضر فقط، بل يرسم ملامح المستقبل. والعقل الفقهي الرشيد هو الذي يدرك المآلات، ويقدِّر أثرَ الحكم قبل صدوره، مستفيداً من أدوات التحليل والتنبؤ المتاحة اليوم، ليضمن إسهام الفتوى في البناء والإصلاح، لا في زيادة التعقيد أو إحداث الضرر.

إن هندسة العقل الفقهي في هذا السياق ليست رفاهية فكرية، بل هي ضرورة ملحّة تفرضها مسؤولية صَون الدين وحماية المجتمع في زمن تتسارع فيه المتغيرات. وإذا لم يبادر الفقهاء والمؤسسات العلمية إلى تطوير مناهج التكوين الفقهي بما يتلاءم مع هذه التحولات، فإن فجوة الوعي بين النصوص الشرعية والواقع الرقمي ستتسع، وقد يملأها غير المؤهلين بفتاوى تفتقر إلى العمق والدقة.

لقد آن الأوان لأن ننظر إلى الفتوى بوصفها عملية مركبة، تتطلب عقلاً فقهياً مهندساً، قادراً على الربط بين ثوابت الشريعة ومتغيرات العصر، وعلى التعامل مع الذكاء الاصطناعي لا كخطر يهدد الدين، بل كأداة يمكن توظيفها لخدمة المقاصد الشرعية، وتيسير حياة الناس، وحماية القيم الإنسانية الجامعة.

إن التحدي الذي يواجهنا اليوم هو نفسه الفرصة التي يمكن أن تَصنع غداً أفضل، إذا ما أعددنا العقلَ الفقهي إعداداً يؤهله للقيادة في زمن الذكاء الاصطناعي.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 19 أغسطس 2025 23:45

 

في المثقف اليوم