أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: نيتشه ونظرية دارون في التطور

سننظر في التأثير العميق لدارون على فلسفة نيتشه الديناميكية؟ كان العالِم تشارلس دارون قد أيقظ الفيلسوف نيتشه من سباته الدوغمائي عبر إدراك انه، طوال التاريخ العضوي، لا وجود لأي كائن غير قابل للتغيير (بما في ذلك نحن). التغيير الشامل حل محل الثبات الأبدي. المفكر الألماني نيتشه ذهب الى ما وراء دارون وعرض تفسيرا للطبيعة الديناميكية أخذ بالإعتبار كل من الآثار الفلسفية والانعكاسات اللاهوتية المترتبة على تناول حقيقة التطور البايولوجي على محمل الجد.
نيتشه لم يكن غافلا عن الزمن الجيولوجي او السجل الإحفوري. هو قبل بالتداعيات الأكثر إثارة للجدل في نظرية دارون: وهي ان البشرية تطورت من أسلاف بعيدة في الماضي شبيهة بالقرود، بطريقة طبيعية تماما، من خلال عملية الحظ والضرورة (تغيرات عشوائية عرضية واختيار طبيعي حتمي يظهر في الافراد ضمن بيئة متغيرة).
حتى القدرات الذهنية للكائن البشري، بما فيها الحب والتفكير تم اكتسابها اثناء مسيرة الصعود التطوري من أشكال بدائية مبكرة. يرى نيتشه، ان التطور هو التوضيح الصحيح للتاريخ العضوي لكنه يؤدي الى صورة كارثية للواقع طالما انه (كما نراه) له حقائق بعيدة المدى في كل من علم الكون العلمي والانثرابولوجيا الفلسفية: الله لم يعد ضروريا في المسؤولية عن وجود هذا الكون او ظهور انواع من حيوانات ما قبل التاريخ. في الحقيقة، هذا الفيلسوف اعتقد ان التطور الداروني قاد الى انهيار في كل القيم التقليدية لأن كل من المعنى الموضوعي والغرض الروحي قد اختفيا من الواقع (وبالنتيجة، لا وجود لأخلاق مؤكدة وثابتة).
أدرك نيتشه ان الأنظمة الفلسفية السابقة منذ افلاطون وارسطو وحتى كانط وهيجل كانت غير كافية للتعامل مع أزمة التطور. وبالتالي، اصبح مطلوبا الآن فلسفة جديدة كلية للعالم. نيتشه قدم تفسيرا للواقع رضي بإنسيابية الطبيعة والأنواع والافكار والعقائد والقيم.
كذلك، هو اعتقد بانه من الهراء الإعتقاد بحقيقة إمكانية تعليم التطور كما لو كان دينا (طالما ان عملية التطور لا تحتوي على أي شيء ثابت او أبدي او روحي). يمكن للمرء ان يتصور خطابات نيتشه النقدية العنيفة ضد الاصولية الانجيلية وما سمي بـ الخلق العلمي scientific creationism الذان هددا العلم والعقل خلال القرن العشرين. نيتشه الملحد كان سيكره ايضا ستيفن جي جولد لتأييده غير المبرر للوجود الثنائي لكل من العالم الطبيعي للعالِم والعالم المتسامي للثيولوجي. بدلا من ذلك، كأحادي، هو سيعجب بريتشارد دكنز ودانيال دينيت لإطارهما المادي الصارم الذي لا يعطي أية مصداقية لما فوق الطبيعة.
نيتشه افترض ان محصلة الثورة الدارونية ربما فقط تقدم تفسيرا لنجاح الأشكال الضعيفة (المتدنية والمتواضعة) للحياة كما في الأعداد الكبيرة للفيروسات المنتشرة في كل مكان والبكتريا والحشرات والاسماك. الفيلسوف جادل بان صراع الانواع الأعمى لدارون لأجل وجود الاكثرية بحاجة الى ان يُستبدل باكتشافه هو للصراع الفردي للقلة لأجل الخلق الذاتي والتميّز.
نظر نيتشه للآلية التوضيحية للإختيار الطبيعي باعتبارها تفسر فقط كمية الانواع ضمن التاريخ العضوي، لكن (بالنسبة له) انها قوة حيوية تزيد نوعية أشكال الحياة طوال التطور البايولوجي التقدمي. هو اعتقد بان الطبيعة بالضرورة ارادة القوة. تطور الحياة ليس مجرد صراع سبنسري/داروني للوجود وانما هو والأكثر اهمية، الكفاح المستمر نحو المزيد من التعقيدية والتنوع والتعددية والخلق. باختصار، للتذكير بالتفسيرات التي عرضها لامارك و هنري برجسون، حيوية نيتشه استبدلت لياقة التكيّف الداروني بقوة خلاقة. الفيلسوف آمن بان تطور الكائنات الحية له جذوره في الوحل البدائي، لكن انواعنا الحية تقف عاليا فخورة على هرم الحياة. كذلك هو رأى النزعة الطبيعية للحيوان الانساني ليتطور نحو رداءة شائعة. لكن ومن خلال ارادة القوة، الافراد المتفوقون لديهم الإمكانية للسيطرة على حياتهم (يتغلبون على العدمية والتشاؤمية) وعلى الفكر لتحقيق النشاط الابداعي.
وكما في توماس هكسلي، وارنست هيكل ودارون ذاته، أكّد نيتشه على الاستمرارية التاريخية بين الكائنات البشرية والحيوانات الاخرى (خاصة الشمبانزي). مع ذلك، نيتشه زعم فعلا ان بعض الافراد سوف يرتقون فوق الوحوش، بما في ذلك نوعنا، لكن هذا سيحدث فقط في المستقبل البعيد.
اذا كانت أنواعنا انحدرت من قرود احفورية اذن لماذا لا يتبعها شكل أعلى للحياة كما حصل للقرد عندما جرى تجاوزه من جانب الحيوان الانساني اليوم؟ طبقا لنيتشه، انواعنا البايولوجية هي معنى وغرض الارض حتى الان لأنها السهم الموجّه من قرد الماضي الى انسان المستقبل المتفوق، هذا الكائن الممجد والذي لا يمكن تصوره سيكون متقدم فكريا الى ما وراء الحيوان الانساني الحالي لأن أنواعنا البايولوجية تقدمت الى ما وراء الديدان المتواضعة.
يرى نيتشه ان التطوري الجمالي كالنحات، الرجل الأعلى القادم يشبه صورة مثالية نائمة في صخرة خام. في نحت هذا الكائن المتفوق، نيتشه كان يسترشد بظلاله، رغم انه بقي لا يختلف من حيث التدمير الناتج من ابداعيته الشديدة:
"شظايا تتطاير من الحجر، ما هذا بالنسبة لي؟".
خلافا للقس الصامت، بيار تيلار دي شاردان عالم جيولوجيا الحفريات والصوفي اليسوعي، نيتشه لم يتكهن بالغاية النهائية للتطور البشري. بدلا من ذلك، تأسست ميتافيزيقاه في العود الأبدي لنفس هذا الكون، أي، سلسلة لا متناهية من دورات كونية متشابهة. وبذلك لا وجود لتطور تقدمي من كون الى كون آخر.
وبالتالي، عملية نيتشه الكونية تمثل الوجود كصيرورة، يتحدد تطوره التيليلوجي الى انسان أعلى وبشكل صارم ضمن كل دورة. نيتشه لم يتأمل في الحياة او الذكاء او تطور خارجي في مكان آخر في هذا الكون. الفيلسوف لم يتخيل انقراضا جماعيا، تكنلوجيا النانو، الهندسة الوراثية، الذكاء الصناعي وسفر الانسان الى كواكب اخرى.
من الواضح، ان التقدم المستمر في العلوم والتكنلوجيا سوف يقدم إمكانات مذهلة للحياة الجديدة والكائنات الفائقة في العصور القادمة. نيتشه أخذ على محمل الجد الزمن والتغيير والتطور. هو كان مدركا جدا بأن هذا الكون لا يختلف كليا عن وجود الانسان. مع ذلك، تقدم فلسفته تحديا متفائلا لأولئك الذين يرغبون بالسير خلف بروق رؤيته ورعوده البطولية.
***
حاتم حميد محسن