أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: العدمية وموت العقل

مع سقوط امبراطورية العقل الكبرى، غادر شيء حاسم من حياتنا بطرق ليست واضحة تماما. هذا السقوط في اللامعنى – العدمية – بأن كل القيم بلا أساس والحقيقة ذاتها بلا هدف او معنى هو في أفضل الأحوال اختراع شخصي وليس اكتشافا ابدا. العدمية لم تهبط  فجأة. بل، انها تسللت جنبا الى جنب مع الانتصارات التي صُممت لتأمين حياتنا: إعلان التنوير عن العقلانية في الحداثة المبكرة بوجه الصدمة التاريخية. كان ذلك بمثابة التأكيد على ان العقل البشري العالمي يمكن ان يكون مرساة لمعرفة و حياة مشتركة . لسوء الحظ، هذا النوع من العقل الذي يوعد بأساس جديد من اليقين كان في النهاية يرتد على ذاته. اكتشافات هذا العصر الجديد لم تستطع تحمّل النقد، كل قيمة عُرضت كشيء طارئ، كل حقيقة جرى اختزالها كنتاج للتاريخ او لعلم النفس او اللغة. نحن جرى تلقيننا لنفهم مذهب العدمية.

فرويد استبدل نظام وعي الذهن بقبو مسكون بالرغبات. كان ذلك عادلا وضروريا ومطلوبا جدا. نيتشه أعلن عن موت الإله وبالتالي اختفاء المرساة الأخيرة والمرجعية المتعالية. هو كان يصف ما حدث عندما فقد الدين قوته. الوجوديون مثل سارتر وكامو حاولوا مواساتنا بحرّية بطولية: اذا كان العالم فارغا من الهدف، نحن سوف نخترعه لأنفسنا. انت وانا والعالم مدعوون لخلق معنى فردي خاص بنا. مع ذلك، حرية خلق المعنى يمكن بسهولة ان تصبح لعنة. المرضى سواء كانوا يستعملون كلمة عدمية ام لا دائما ما يأتون للعلاج وهم مثقلون بالشعور بالفراغ والقلق وعدم القدرة على التعبير عنها بشكل واضح. جميعنا نجد طرقا للابتعاد عن هذا الفراغ. البعض يسعى لمعالجة المشكلة سطحيا عبر اللجوء لبرامج الواقع والإنشغال والاستهلاك والعروض الاجتماعية واللحاق اللامتناهي بالمكانة. البعض يسعون لإلتقاط   المعاني البسيطة والشعور العابر. يمكننا القول ان الثقافة أصبحت مستنزفة. المحللون السايكولوجيون يرون ان مهمتهم هي التعامل مع الفراغ كمشكلة فردية. حالات الاكتئاب، الحزن الدائم الذي يصفه فرويد بخسارة اعتبار الذات، انهيار روحي يشعر فيه العالم ذاته باستنزاف اللون والوزن. نحن نمارس هذا النوع من اليأس في عالمنا الداخلي، لكنه أكثر من ذلك. انه تاريخي – تعبير لزماننا.

من الصعب في وقتنا الحالي الإقتناع بان المعنى لازال صالحا ان كان موجودا في الأصل. الحياة العامة مسرحا لحقائق بديلة. الالتزام العشوائي يستبدل النقاش العقلاني. نحن فقدنا البوصلة. فقدنا الايمان بان البوصلة كانت موجودة.

تاريخيا، هذه الأعراض كانت مألوفة بشكل مرعب. وكما كتبت حنة أرندت وغيرها ان خسارة المعنى المشترك سمح لكامل المجتمعات لتصبح عرضة لإغراءات التعصب. بعد الحرب العالمية الاولى، ومع انهيار المعنى والأخلاق، جفّت تربة اوربا الروحية واصبحت مستعدة لقبول الاساطير الشمولية للاستبداد. النازية والفاشية برزتا من الحاجة لملأ الفراغ. عندما تزول أية مرساة لدى الناس، ولم تبق حاجة للانتماء سيقفزون الى روابط أسوأ من السلاسل التي تخلصوا منها. المحلل السايكولوجي في أحسن الاحوال لا يتظاهر بإعادة اليقينيات المتعالية. هو يعترف بانه في عالم تُبنى فيه القيم ولا تُكتشف، يجب على الافراد ان يصارعوا مع رغباتهم وينسجون قصصهم الخاصة. المعالجون النفسيون وخدمات المساعدة الذاتية تجد طريقها لهم، والمستهلكون نهمون.

ما هو المسار الذي يمكن اتخاذه عبر هذه التضاريس؟ اذا كان الجواب فقط في العثور او اختراع قصة "تعمل لنا"، هل سنشفى حقا ام اننا فقط نعيد ترتيب المقاعد على سطح السفينة في وجودنا العملاق؟ في النهاية، نحن تُركنا في عالم يدور دون مركز، المعنى التشاركي هو وهم والحوار العقلاني أكثر وهما. خارطتنا الجماعية التي كانت في يوم ما ذات معالم مشتركة قد اختفت. كل واحد منا يبحث الان عن اتجاه في ظل سماوات متحركة وغير مؤكدة. مع ذلك، يجب ان لا ننسى ان التاريخ يبيّن ان روح الانسان لها أعماق لا تُستنزف بسهولة. مرة بعد اخرى، أمام اليأس والاضطراب، نحن نكتشف في دواخلنا مرونة غامضة. ظلام العدمية واقعي ولكن قدرتنا على تحمّله وتحويله واقعية ايضا.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم