اخترنا لكم

فهد سليمان الشقيران: كانط إذ يتصدى لأسئلة العلوم

لم تكن علاقة الفلسفة بالعلوم مستقرّة، لقد تراوحت بين أحوالٍ مزلزلة ما بين الصراع والتناقض والتشابك، وقليل من التلاقي والتعايش والتعاضد. لكن الفلاسفة مغرورين بالطبع، وهم كثيراً ما يبرهنون على أن الأسئلة الفلسفية هي التي ألهمت العلماء وحرضتهم على الاكتشاف والإبداع العلمي.

 أظنّ أن أقرب الفلاسفة الذين قرروا التصدي لإشكال العلاقة بين مجاليْ العلم والفلسفة هو إيمانويل كانط، فعلى الرغم من تكوينه العلمي، فقد قرر فكّ الإشكال وانتصر للفلسفة في آخر المطاف.

كان تبويب كانط للمعرفة مبنيّاً على تأسيس الأسئلة الضرورية. فقد طرَح أولا مجموعةً من الأسئلة حول المعرفة: ماذا يمكنك أن تعرف؟ ثم طرح مجموعة أخرى حول الأخلاق: ما الذي ينبغي عليك عمله؟ قبل أن يطرح في المرحلة الثالثة تساؤلَه الشهير: ما الذي يمكنك أن تعتقده؟ وهذا فيما يتعلق بالدين.

«إنك لتشعر في مؤلفات كانط كما لو أنك في سوق ريفية، فبمقدورك أن تشتري منه أي شيء»، هكذا يقول المختصّ بفلسفة كانط الأستاذ سمير بلكفيف، الذي قرأتُ مؤخراً كتابَه المنشور تحت عنوان: «التفكير مع كانط ضد كانط». وهو كتاب نفيس ومهم ومحرّض على تذكّر نظريّة كانط ودرْسه مجدداً، وسأعرض بعض شروحه هنا في هذه هذه السطور.

لقد طرح كانط عدة براهين:

 الأول، أن «فكرة المكان والزمان ليست مفهوماً مستمداً من التجربة، فالمكان لا يتقوّم بالتجربة والظواهر الخارجية، وإنما هذه التجارب لا تكون إلا بواسطة هذا المكان القبلي، والشيء نفسه يقال عن الزمان، فلا يمكن تمثل التتابع الذي تخضع له الأحداث إلا بتصور الزمان مسبقاً». الثاني، أن «المكان والزمان شرطان أوليان وضروريان لظهور الأشياء في حسّنا، والدليل على ذلك أنه يستحيل علينا تصور أشياء ليست في مكان ولا في زمان، بالرغم من أنه يمكننا التفكير فيها دون أن نقف عند مكان أو زمان محدد، وبتعبير آخر نستطيع قبل التجربة أن نتمثل المكان والزمان».

الثالث، أن المكان والزمان ليسا تصورين، لأن التصور ماهية عامة تشتمل على خصائص مشتركة بين مجموعة أفراد، كذلك لأن التصور يستلزم وجود أسبقية للأشياء حتى نتمكن من تجريد تلك الخاصية المشتركة.

الرابع: أن المكان والزمان حدسان خالصان لا تصوران، من حيث إن التصور يدل على خصيصة مشتركة بين مجموعة أفراد، تنطبق على أشياء جزئية لامتناهية، إلا أن المكان والزمان يحتويان هذه الأجزاء اللامتناهية.

 تلك البراهين جعلت كانط يؤسسها ضمن عرضٍ فلسفي مهم ضمن نظريته «الترانسندنتالية» (أو المثالية المتعالية) وخلاصتها أن «مفهومي الزمان والمكان معارف تأليفية قبْلية. فالمفاهيم الرياضية ليست مستمدة من العيان التجريبي، بل من العيان المجرّد بشكلٍ قبْلي، وهذا ما يجعل أحكامَها التركيبية يقينية بصفةٍ قبلية وضرورية أي تتميز بالكلّية، ولتكون تركيبية تأليفية».

والخلاصة هنا، هي أن كانط لجأ إلى الحدس الخالص، لأنه تورّط في يقينية النظرية العلمية. ولأنه لم يجد تسبيباً لها لاذ بهذه النظرية التوليفية الصلبة، إنها نظريّة أعادت تفسير علاقة الفلسفة بالعلوم عبر تبويبٍ جديد غير مسبوق.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 13 أكتوبر 2025 23:55

 

في المثقف اليوم