قضايا
محمد الربيعي: التعليم العالي في العراق

حين يصبح "تتويج العلم" مرادفا لـ "عبث الاوراق البحثية"
يشهد المشهد الاكاديمي العراقي، ولا سيما قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، مفارقة صادمة تزداد حدة ووضوحا يوما بعد يوم. فبينما تعلن الوزارة عن انجازات وتكريمات وارتفاعات قياسية في التصنيفات العالمية، يرتفع في المقابل منسوب التساؤل والشك حول جودة هذا الصعود واساسه الاخلاقي والمهني.
تتركز الانتقادات الموجهة الى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، في ظل قيادة وزيرها الحالي، الدكتور نعيم العبودي، حول محوران اساسيان، يشكلان معا ما يسميه المراقبون "ازمة النزاهة العلمية" في العراق:
اولا: ازمة البحوث المسحوبة.. "طوفان" الاوراق الزائفة
لم يعد خافيا على احد في الاوساط الاكاديمية العالمية تزايد اعداد البحوث العراقية التي تسحب (Retraction) من المستوعبات العالمية المرموقة كـ "سكوبس" و"كلاريفيت". ان هذه الظاهرة ليست مجرد "هفوات" فردية، بل اضحت مؤشرا خطيرا على انحدار مريع في النزاهة العلمية، حيث تحولت اهداف بعض الباحثين من انتاج المعرفة الى تجميع الارقام لغرض الترقيات الادارية والاكاديمية.
الاتهام المباشر هنا هو ان سياسات الوزير ووكيله، التي تربط الترقيات بشكل مباشر بـ "كم" النشر في المجلات المفهرسة، شجعت بشكل غير مباشر على ظهور ما يعرف بـ "المجلات المفترسة" و"مصانع الابحاث". فبدلا من تطبيق اليات رقابة صارمة تضمن الجودة وتعاقب التلاعب، يرى المنتقدون ان الادارة الحالية ركزت على الاحتفاء بالارقام المتضخمة دون تمحيص، ليصبح "تتويج العلم" مرادفا لـ "عبث الاوراق"، واصبح "الانتاج الاكاديمي" مرادفا ل "الفساد الاكاديمي" .
ثانيا: تسييس الاكاديميا وتغليب الولاء على الكفاءة
تتفاقم الازمة بسبب الطابع السياسي الذي يراه الكثيرون يطغى على ادارة هذا القطاع الحيوي. فالوزير، الذي ينتمي الى تيار سياسي بارز، يواجه اتهامات واسعة بـ تسييس المؤسسة التعليمية وتغليب اعتبارات الولاء السياسي والحزبي على معيار الكفاءة الاكاديمية والخبرة المتخصصة.
ان تعيين شخصية بخلفية سياسية بحتة لادارة وزارة اكاديمية حساسة كوزارة التعليم العالي، يطرح علامات استفهام حول اولوية الوزارة: هل هي الارتقاء بمستوى البحث العلمي وجودة التعليم، ام تحقيق مكاسب سياسية وفئوية؟ وتزداد هذه المخاوف حين تسجل قرارات تتعلق بادخال مناهج ذات صبغة عقائدية معينة في الدراسات الجامعية، مما يعزز الراي القائل بان المؤسسة الاكاديمية تستغل كاداة لتوجيه النخب والطلاب بدلا من تحرير العقل والبحث.
خاتمة: بين الانجاز الحقيقي والوهم الرقمي
لا شك ان الوزارة تعلن عن منجزات رقمية واهية، من زيادة في عدد الجامعات المصنفة عالميا وارتفاع في اعداد الابحاث المنشورة. لكن السؤال الذي يطرحه النقد الجاد هو: هل هذه الارقام حقيقية؟ وهل تعكس حقا تطورا مستداما في جودة التعليم، ام هي مجرد "فقاعة" رقمية قابلة للانفجار؟ جميع الشواهد تؤكد: ما نراه ليس الا تزييفا متعمدا وتضخيما مبالغا فيه.
لقد اصبحت المؤسسات التعليمية في العراق في مفترق طرق: اما الانزلاق الكامل نحو الهاوية عبر الاستمرار في سياسة التضخيم الرقمي التي تشجع على الفساد الاكاديمي، او اطلاق ثورة حقيقية في النزاهة والجودة تبدا بمعاقبة المتلاعبين وابعاد الشبهات السياسية عن العملية التعليمية.
ان "يوم العلم" يجب ان يكون يوما لتكريم النزاهة والعمل الجاد، لا ان يتحول الى مسرح لتتويج من اثقلته شبهات التلاعب وفقدان الامانة العلمية. اذا لم يتم تصحيح المسار، فان الخسارة لن تقتصر على سمعة الجامعات، بل ستمتد لتضرب اسس مستقبل العراق الفكري والمعرفي.
***
ا. د. محمد الربيعي