قضايا
صائب المختار: المنظومة الأخلاقية في المجتمع العربي بين القديم والحديث

الاخلاق في اللغة هي جمع الخُلُق، أي الكثير من الخُلُق. والخُلُق يعني السجية أو الطبيعة والطبع. والأخلاق هي سلوك وتصرفات الأفراد تجاه المجتمع وتجاه الآخرين من أفراد المجتمع. وقيل أيضاً، أن الأخلاق هي القواعد والممارسات التي تنظّم مواقف الفرد من الآخرين، وسلوكه تجاه مجتمعه. وقد تكون الأخلاق حَسِنة أو قد تكون سيئة بحسب تأثيرها على المجتمع أو على أفراده أو كلاهما. فكُل تصرّف أو سلوك فيه فائدة ومنفعة للمجتمع وأفراده يعتبر أخلاقاً حسنة. وكل تصرف أو سلوك يضر أو يسبب أذى للمجتمع وأفراده يقع ضمن مجموعة الأخلاق السيئة أو الرديئة. ويمكن وصف الأخلاق الحسنة بأنها أعمال خير، كذلك يمكن وصف الأخلاق السيئة بأنها أعمال شريرة. ومفهوم الخير والشر ينبع أيضاً من تأثير الفعل أو العمل على المجتمع أو على أفراده أو كلاهما. فإن كان العمل ذو فائدة أو منفعة للأفراد أو المجتمعات فهو عمل خير، وإن كان فيه ضرر أو أذى فهو من أعمال الشر.
وقد وَضَع الكثير من المفكرين والمثقفين والفلاسفة تعاريف وتصانيف متعددة ومختلفة لمفهوم الأخلاق. وأعتبره بعضهم علماً فأسماه بعلم الأخلاق، لما فيه من سِعة المعرفة وتشعبها، ولكونه يدرس الأعمال الإنسانية ويحكم على أفعال الناس بالخير أو الشر، ويحدد الفضائل والرذائل. واختلط مفهوم الأخلاق بمفاهيم أخرى كثيرة ومختلفة مثل الضمير والعُرف والفضيلة والرذيلة والحقوق والواجبات والشهامة والكرم والشجاعة وغيرها كما ذكرها الكاتب الكبير أحمد أمين بإسهاب في كتابه "الأخلاق"، ولا يسع المجال هنا للدخول في تفاصيلها إذ قد تسبب نوعاً من الارباك والتيه المعرفي والفلسفي.
يتميّز الإنسان عن الحيوان بالعقل، وقد وصِف الإنسان بأنه حيوان ناطق، وكذلك يمكن وصفه بأنه حيوان أخلاقي، لكونه يتحلّى بالأخلاق. ولا توجد أخلاق عند الحيوانات، لأن الحيوانات لا تملك عقلاً قادراً على التفكير والإدراك أو الاستنتاج، وإن الغرائز هي التي تتحكم في أفعال الحيوان. إن الطريق الذي يسلكه الحيوان واضح المعالم لا لبس فيه، وها قد مضت ملايين السنين على الحيوانات ولم يتغيّر شيء في نمط حياتها. والحيوان لا يعمل الشر ولا الرذيلة، فهو لا يقتل إلا إذا جاع، ويأكل حتى يشبع، وإذا شبع ترك الفريسة لغيره. ومن المنطقي أن الحيوان لا يسرق، ولا يكذب ولذلك فهو لا يعرف الشر ولا الخير. أما عند الإنسان، فيولد الطفل وهو بريء نقي من كل رذيلة، لا يعرف الكذب ولا الغش ولا السرقة ولا أي خُلُق سيء. هكذا يولد الإنسان خالياً من الشر والرذيلة، ثم يكتسبها عندما يصبح واعياً مدركاً لما حوله من ظروف بيئية تحيط به قد تجبره لسبب ما أن يكذب أو يسرق أو يفعل فاحشة، فيتكون للشر معنى وينشأ للخير مفهومه الخاص. وعلى ذلك فالشر هو عمل يقوم به الإنسان من نتاج عقله وأفكاره وبإرادته الكاملة. ولا يخلق الله الشر كما هو متعارف عند الناس، لأن الشر هو عمل أو سلوك شخصي وليس شيء مادي محسوس يتم خلقه. ولذلك يمكن الاستنتاج، بأن الإنسان لا يولد وبه نزعة للشر كما يعتقد البعض. ومن ذلك أيضاً يمكن القول إن الإنسان لا يولد وعنده نزعة للخير، لأن الخير يُعرف بالشر استنادا إلى مقولة إن الأشياء تعرف بأضدادها. فبانعدام الشر ينعدم الخير إذ لا يصبح هناك مبرر أو معنى لوجوده.
علاقة الدين بالأخلاق
ارتبط مفهوم الأخلاق بالدين ارتباطاً مباشراً ووثيقاً. ذلك أن كل الأديان والعقائد تدعوا إلى فضائل الأخلاق، سواءً كانت ديانات توحيدية أو غير توحيدية. إن الدين يدعو للفضيلة ويحرم الرذيلة. ومن الدين يتكون وازع ديني عند الناس يحثهم على فعل الخير وينهاهم عن فعل الشر. على العكس من ذلك، هناك من يرى إن الدين والأخلاق منفصلان ولا ضرورة لاتصالهما، فيمكن للأخلاق أن تكون منفصلة ومستقلة تماماً عن الدين، فتكون الأخلاق عندهم أساسها الفلسفة وليس الدين. واختص الدين الإسلامي بالتأكيد على الفضيلة ومكارم الأخلاق، واقترن ذكر الإيمان بالعمل الصالح في القرآن، وتكرر ذلك في أكثر من خمسين آية قرآنية، واعتُبر الإيمان والعمل الصالح متلازمة ضرورية للحصول على الأجر والثواب وكان بمثابة الطريق إلى الجنة. تُمثل مجموعة الوصايا العشرة في الديانة اليهودية الأساس الديني لمنظومة الأخلاق، وكذلك اعتبرت الأساس الأخلاقي الديني في الديانة المسيحية كونها امتداداً لشريعة موسى (ع). وتجلّى ذكر الوصايا العشرة في القران في سورة الأنعام، الآيات 151 – 153، مما يوحي بتناغم الديانات التوحيدية. ولا يفوتنا ذكر مقولة الإمام محمد عبده الشهيرة "ذهبتُ إلى الغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكنني لم أجد إسلاماً". وقد أثارت هذه المقولة حفيظة بعض الناس كون الدعوة إلى الأخلاق ليست مقتصرة على الدين الإسلامي وإنما هي عامة في كل العقائد والأديان، لكن المقولة تشير إلى حالة ضياع الأخلاق عند المسلمين. والعبرة لنا في هذه المقولة هي الشهادة والتأكيد على التدهور الأخلاقي السائد والملحوظ بشدة في المجتمع العربي مما يوجب إثارة حفيظة الغيورين من أفراد المجتمع وبخاصة المفكرين والمثقفين لمعالجة المشكلة.
متى ظهر مفهوم الاخلاق عند البشر
ليس هناك تاريخ محدد ولا مؤكد لبداية ظهور الأخلاق في المجتمعات البشرية لعدم وجود أدلة تاريخية في التاريخ القديم كالوثائق والمخطوطات الطينية أو ما شابهها. يقول الدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا في كتابه "المرجع في تاريخ الأخلاق" إن معظم الكتب التي تبحث في تاريخ الأخلاق تبدأ بحثها من اليونانيون والرومان وليس هناك ذكر لدور الأخلاق في الأقوام والحضارات السابقة، وكأن اليونانيون والرومان هم فقط أصحاب أخلاق وتحضّر. ويُعزى ذلك إلى ما عُرف عن الاوربيين انحيازهم التام إلى الحضارات اليونانية والرومانية والتقليل من شأن الحضارات الأخرى أو حتى إلغاء دورها في التقدم الحضاري.
بدأ تحضّر الإنسان البدائي في عصور ما قبل التاريخ بعد انتهاء العصر الجليدي الأخير قبل عشرة الاف سنة عندما تحول حال الإنسان من حالة عدم الاستقرار، كمجتمعات أُسرية صغيرة تبحث عن الطعام عن طريق صيد الحيوان، إلى حالة الاستقرار، ومن ثم اكتشفت الزراعة وتدجين الحيوان واكتشفت الآلة، فتكونت تجمعات بشرية صغيرة أخذت تتعامل بالمقايضة وتبادل السلع كنواة للتجارة والتعايش المجتمعي بين أفراد المجتمع، ففرض هذا الوضع قواعد خاصة تُحدد وتنظم سلوكيات التعامل بين الأفراد لخلق مجتمع آمن ومتحضر، فكانت نواة لبداية مفهوم الأخلاق.
تطور الأخلاق في الحضارات البشرية
تلا تلك الحقبة من زمن الإنسان البدائي، ظهور عصر الحضارات الأولى، وتحديداً الحضارة المصرية وحضارات بلاد الرافدين، السومرية والبابلية والآشورية ثم الكلدانية. في هذه الحضارات ظهر الدين والتديّن بأشكاله الكاملة والواضحة، ووضعت القيم الأخلاقية بشكل تام، وذلك للعلاقة المباشرة والوثيقة بين الدين والأخلاق. وقد أضاف الدين قدسية للأخلاق حيث ارتبطت الأخلاق بالدين والطقوس الدينية. واكتشف الكثير من الأدلة التاريخية لهذه الحضارات وهي تؤكد التزام الشعوب واحترامهم للأخلاق واعتبارها قيمة سامية عليا.
يعتبر اليونانيون أول من وضع علم الأخلاق في إطار فلسفي. ويعتبر سقراط (ت 399 ق م) مؤسس الفلسفة الأخلاقية. وقد ميّز بين الأخلاق والدين من خلال بناء علم الأخلاق على أساس لا ديني. وأعطى اليونانيون للأخلاق صفة سامية وعليا للشعب والدولة، واعتبروا أن هدف الأخلاق هو الوصول إلى السعادة. وكتاب "جمهورية افلاطون" يعتبر من الكتب الفلسفية المهمة في التاريخ حيث يوضح بأسلوب حواري فلسفي، أن الحكم يجب أن يكون بيد الحكماء الذين يجمعون المعرفة والفضيلة. واشتهرت الفلسفة الأبيقورية، نسبة لمؤسسها الفيلسوف اليوناني أبيقور (ت 270 ق م)، وتدعو الى إن الغاية العليا هي الوصول إلى السعادة باستخدام اللذة بكل أنواعها وبكل الوسائل الممكنة، فهي بذلك تدعو إلى الإباحية المطلقة. وبعكسها اشتهرت الفلسفة الرواقية، والتي تزامنت مع الابيقورية، وهي تدعو إلى الفضيلة وكبت الشهوات بالسيطرة على النفوس. سميت بالرواقية لأن اتباعها كانوا يجتمعون في الرواق لمناقشة فلسفتهم.
في العصر الجاهلي، عرف العرب الأخلاق متمثلة بالفضيلة والتي تتمثل في المروءة التي تقوم على الشجاعة والكرم والحلم...الخ. لكن كانت لديهم أيضاً أعراف وعادت سيئة مثل وأد البنات والثأر والخمر والميسر وغيرها. اشتهر العرب بالكرم والوفاء بالعهد والأنَفَة وعزة النفس، لكنهم أيضاً اشتهروا بالسيء من الأخلاق. ولذلك فالأخلاق عند عرب الجاهلية هي مزيج من الفضائل والرذائل، شأنهم في ذلك شأن الأقوام الأخرى.
في زمن الحضارة الإسلامية، شكلت الأخلاق ركيزة مهمة من ركائز الدين الإسلامي، وتحلّى المسلمون بالفضيلة والأعمال الصالحة التي انعكست في سلوك كل مسلم. يخبرنا التاريخ، أن الناس في الصين والهند ودول شرق آسيا اعتنقوا الإسلام بسبب تعاملهم المباشر واحتكاكهم مع التجار المسلمين الذين أظهروا أخلاقاً حميدة وسامية في تعاملهم مع الآخرين. وخير تمثيل لأخلاق المسلمين جاء في خطبة جعفر بن ابي طالب مخاطباً النجاشي ملك الحبشة، عندما سأله النجاشي "وما هو دينكم؟" فأجاب جعفر "أيها الملك كنّا قوماً على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة ونسيء الجوار ونستحل المحارم والدماء، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا، نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده، ونصل الرحم ونحسن الجوار ونصلي ونصوم". هكذا كانت أخلاق العرب في الجاهلية، وهكذا أصبحت أخلاق العرب في الإسلام بفضل الإسلام.
الأخلاق في العصر الحديث
مُنيت المنظومة الأخلاقية في العالم العربي بانتكاسة مؤلمة في العصر الحديث، فبحلول النصف الثاني من القرن الماضي ومروراً بالقرن الحالي، عانت العديد من الدول العربية من حروب ومعارك طاحنة ومدمرة، نتج عنها دمار شامل وخراب لعدد المدن الكبيرة والمهمة في الوطن العربي، وهُجّر الملايين من أبناء الشعب العربي، ودُمّر الاقتصاد وحَلّ الفقر. فانتكست المنظومة الأخلاقية والثقافية، وتزعزعت ثقة الشعوب بأنفسهم وبحكوماتهم ومبادئهم الدينية والأخلاقية، مما أدى إلى فوضى عارمة في الفكر والثقافة وتشتت المجتمع.
افرزت النهضة الأوربية مجموعة قيم أخلاقية جديدة سُميت "بالمنظومة الأخلاقية الحديثة" تيمناً بمنهج الحداثة الأوروبية. محور هذه المنظومة يعتمد على ظهور مفاهيم وقيم أخلاقية جديدة تتوافق مع نهضة وتطور المجتمع. اعتمدت هذه المنظومة على التركيز على إبراز أخلاقيات تتوافق مع مفاهيم الحداثة والتنوير، واعتُبرت هذه الأخلاقيات أنها تمثل القيمة الأخلاقية العليا. مثال ذلك مفهوم الحرية بشكله العام، وتشمل احترام حريات الأشخاص والرأي الآخر ومعتقداته وحقوق الانسان. وكذلك مصطلح الوطنية والمواطنة، أي حب الوطن والإخلاص والتضحية في سبيل الوطن، وشملت أيضاً قواعد السلوك المهني مثل الإخلاص في العمل والتفاني فيه من اجل النجاح والابداع. وظهرت منظومة قواعد السلوك المهني مثل أخلاقيات السلوك المهني الطبي والتعامل التجاري والعسكري وأخلاقيات الحروب. تهدف هذه المنظومة الأخلاقية إلى فصل الأخلاق عن الدين وتحريرها من سيطرة الدين، وهذا ما دعت إليه، وسعت إليه، العلمانية وفلسفة الحداثة في النهضة الاوربية، فاعتبرت أن مصدر وأساس الأخلاق هو العقل والطبيعة وليس الدين. نتيجة لذلك ضعفت سلطة الدين الأخلاقية، وضعف الوازع الديني والالتزام الأخلاقي الديني عند الأفراد، فتغلّبت الأخلاق الدنيوية المادية على الأخلاق الدينية الروحية، وأصبحت مفاهيم التحلل الجنسي والاباحية والمثلية الجنسية مباحة ومقبولة عند المجتمع الغربي.
مقابل ذلك، سادت في المجتمع الشرقي العربي منذ التاريخ القديم "المنظومة الأخلاقية التراثية القديمة" والتي تعتمد الدين كمؤسس وراع لها. فالدين وضع القواعد الأخلاقية وكان رقيباً على أدائها. والدين يأمر بالعمل بصالح الأعمال والفضائل وينهى عن الرذيلة، ويكون الوازع الديني عند الأشخاص خير محفّز ورقيب. تدعو هذه المنظومة الأخلاقية إلى تعظيم العفّة والعرض والشرف، والصدق والأمانة، والشهامة والكرم...الخ وتحرّم العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج والقتل والسرقة والكذب والغش وغيرها من رذائل الأعمال. وقد نشأ عليها أفراد المجتمع العربي وتربوا عليها فأصبحت سجية خلقية عندهم، فتطبّعوا بها وترسخت في نفوسهم، وأصبحت عادات يمارسونها لا شعورياً في مجتمعهم.
ثم ظهرت العولمة فتخطت الحدود والحواجز بين البلدان، وتفاعلت الحضارات بين المجتمعات، وتناقلت الأفكار والثقافات وعوامل التحضّر الحضاري بينهم، فاقتبست المجتمعات الضعيفة أفكار وعادات وثقافة المجتمع الأكثر تطوراً وتحضراً. انبهر المجتمع العربي، المتأخر حضارياً، بتطور المجتمع الغربي، فدخلت أفكار وثقافات غريبة على مجتمعنا، مغايرة لعاداتنا وتقاليدنا، وأحياناً منافية لها. وظهرت ممارسات لا أخلاقية لم يعرفها المجتمع العربي من قبل. فانقسم المجتمع إلى مؤيد للتغيّر ورافض له، ونشأ صراع فكري بينهم، تعدى أحياناً حدود المعقول، وانتكست الثقافة والأخلاق، ووصل حالنا إلى ما وصلنا إليه.
الخلاصة
وختاماً فالرسالة في هذه المقالة، تدعو إلى حثّ أفراد مجتمعنا لفِهم مبادئ "المنظومة الأخلاقية الحديثة" الغربية، وتشجيعهم للعمل بها، لما لها من أهمية في بناء مجتمع متقدم ومتطور، دون أن ننسى التأكيد على العمل "بمنظومة الأخلاق التراثية القديمة" الأصيلة التي تربينا عليها، لكونها أساس الأخلاق في المجتمع الشرقي، وليس الأخلاق الدخيلة والغريبة علينا. وذلك لأن تزاوج هاتين المنظومتين الأخلاقيتين يمكن أن يؤسس نواة لمجتمع حديث متحضّر آمن ومستقر.
***
د. صائب المختار