أقلام فكرية

سليم جواد الفهد: الفهم الفلسفي للدين.. تأملات في مفهوم "الخبرة الدينية" (2)

الخبرة الدينية: يعرف الجرجاني الخبرة بشكل عام فيقول: "الخبرة هي المعرفة ببواطن الأمور". (تعريفات الجرجاني).

ولغةً: الخِبْرَة هي العلم بالشيء ومعرفة حقيقته وفهمه وتفاصيله.

يأتي مصدر الفعل "خَبَرَ" من قولك: "خَبَرْتُ الشيء"، أي علمت حقيقته.(معجم المعاني).

واصطلاحاً هي: المعرفة الخاصة ببواطن الأمور أو المعرفة المكتسبة من طول الممارسة والتجربة مع الدقة في الملاحظة وغالبا ما ترتبط بمفهوم المهارة أو القدرة الفطرية العميقة.

والخبير هو العالم والعارف بالشيء وأصحاب الخبرة هم أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمور.

وتعني أيضاً المهارة أو قدرة الملاحظة العميقة التي تكتسب من خلال المشاركة في عمل أو حدث معين ويكتسبها الإنسان بالممارسة وتكرار التجربة مما يمنحها عمقا أكبر.

غالبا ما تترافق كلمة "خبرة" مع كلمة "تجربة".

ويكتسب الإنسان الخبرة من خلال المشاركة في عمل معين أو حدث معين وغالبا ما يؤدي تكرار هذا العمل أو الحدث إلى تعميق هذه الخبرة وإكسابها عمقا أكبر. لذلك تترافق كلمة خبرة غالبا مع كلمة تجربة. فنقول أصبح خبيرا من كثرة التجارب.

تترافق كلمة خبرة أيضا بشكل خاص مع المعرفة الإجرائية (تطبيقية) أي معرفة كيفية عمل شيء ما وليس مجرد معرفة خبرية (قولية).

كالمهندس الخبير والفني الخبير- في أي أختصاص- بشرط أن يكون عملي تطبيقي.

مفهوم الخبرة الدينية فلسفيا:

غالبا ما يصف الفلاسفة الخبرة الدينية فلسفياً بأنها تجربة ذاتية عميقة يشعر فيها الفرد بأنه يتواصل مع حقيقة متجاوزة أو مقدسة تتخطى حدود الواقع المادي المعتاد. هذه التجربة غالبا ما تؤدي إلى تحول في فهم الشخص لنفسه وللعالم وقد تكون مصحوبة بمعرفة أو بصيرة جديدة.

خصائص الخبرة الدينية فلسفياً:

1.الذاتية والفردية:

يؤكد الفلاسفة على أن الخبرة الدينية هي في جوهرها تجربة شخصية وفردية. لأنها تتعلق بمشاعر الفرد وعواطفه وإرادته في الإيمان بعيدا عن البراهين العقلية والمنطقية الصرفة.

2.الاتصال بالمقدس: يصف اللاهوتي الألماني (رودولف أوتو) جوهر التجربة الدينية بأنها الشعور بـ "النومينوس" (Numinous)، وهو مزيج من الرهبة والجذب تجاه ما هو مقدس وغامض.

ويرى (أوتو) أن هذا الشعور هو أساس كل دين حقيقي.

(أوتو، فكرة المقدس).

3. مصدر للمعرفة: يعتبر البعض أن الخبرات الدينية خاصة الصوفية منها هي حالات من المعرفة والكشف. يشعر الشخص الذي يمر بها أنه يصل إلى أعماق الحقيقة بطريقة تتجاوز التفكير العادي وتترك لديه شعورا باليقين والمعرفة.

4. التأثير العملي (البراجماتية): من منظور الفلسفة البراجماتية كما عند وليم جيمس تقاس أهمية الخبرة الدينية بآثارها العملية في حياة الفرد. فإذا كانت هذه التجربة تمنح المؤمن السعادة والطمأنينة والسلام وتدفعه نحو حياة أفضل فهي بذلك تبرر نفسها بغض النظر عن إمكانية إثباتها علميا.

باختصار الخبرة الدينية فلسفيا هي لحظة لقاء شخصي وعميق بين الإنسان وما يعتبره مقدسا أو مطلقا وهي تجربة تتجاوز اللغة والمنطق التقليدي وتُقيّم غالبا بمدى تأثيرها التحويلي على حياة الفرد.

ومن أبرز الفلاسفة الذين تناولوا الخبرة الدينية في القرن العشرين هو (ولتر ستيس) خاصة في كتابه الهام "الزمان والأزل" يقدم ستيس في هذا الكتاب رؤية فلسفية عميقة تهدف إلى التوفيق بين النظرة العلمية الحديثة للعالم والتجربة الدينية الصوفية.

وحاول حل الصراع بين الرؤية العلمية للعالم (التي يسميها النزعة الطبيعية) والتجربة الدينية. وهو يرى أن المشكلة ليست في تعارض اكتشاف علمي معين مع عقيدة دينية محددة بل في الصدام بين عقليتين: العقلية العلمية التي ترى الوجود بلا غاية والعقلية الدينية التي تبحث عن المعنى والغاية في الوجود.

والحل الذي يقدمه ستيس يرتكز على فكرة جوهرية: هي وجود نظامين أو مستويين للحقيقة لا يتعارضان بل يتقاطعان.

النظام الأول: هو نظام الزمان الذي هو عالمنا المادي عالم الطبيعة الذي تحكمه قوانين السببية والمنطق والتعددية والتغير وهو المجال الذي يدرسه العلم والعقل التحليلي. في هذا النظام كل شيء نسبي ومحدود.

ثانيا: نظام الأزل: وهذا هو عالم الإله أو الحقيقة المطلقة. إنه عالم الوحدة واللامتناهي وهو ثابت لا يتغير. ولا يمكن إدراكه بالحواس أو بالعقل المنطقي بل فقط من خلال الحدس الصوفي أو التجربة الدينية المباشرة.

يرى ستيس أن هذين النظامين منفصلان تماما فقوانين أحدهما لا تنطبق على الآخر. فلا يمكن استخدام العلم لإثبات أو نفي وجود الإله كما لا يمكن للتجربة الدينية أن تخبرنا بحقائق عن العالم المادي (مثل قوانين الفيزياء).

الخبرة الدينية كـ "نقطة تقاطع":

يعتقد ستيس إن اللحظة الوحيدة التي يلتقي فيها هذان النظامان هي لحظة التجربة الصوفية في هذه اللحظة يخترق الإنسان حدود عالم الزمان ليعاين مباشرة عالم الأزل.

و يصف ستيس هذه التجربة بأنها اتحاد كامل تزول فيه الثنائية بين الذات والموضوع. فالصوفي لا "يرى" الإله كشيء منفصل عنه بل "يصبح" هو الإله أو يتحد معه في تجربة لا يمكن وصفها. هذه المعرفة التي تتحقق في التجربة الدينية هي معرفة حدسية وليست عقلية. لأن العقل بطبيعته يفصل بين الذات العارفة والموضوع المعروف أما الحدس الصوفي فيتجاوز هذا الفصل إلى مرحلة الاتحاد مع المطلق.

و بما إن نظام الأزل لا يمكن التعبير عنه بمفاهيم العقل واللغة التي تنتمي إلى نظام الزمان فإن كل لغة دينية هي بالضرورة لغة رمزية.

مثلا عندما يصف المتصوفة الإله بأنه "النور" أو "البهجة" فهم لا يعنون أنه غير موجود بل أن كل المفاهيم والصفات التي نعرفها في عالمنا المادي لا يمكن أن تنطبق عليه فهو أعظم من أن يوصف. وعندما يصفونه بصفات إيجابية (مثل المحبة أو القدرة) فهذه مجرد رموز تقريبية تساعد العقل البشري على فهم ما لا يمكن فهمه.

إذن كيف يتجاوز العقل الإنساني هذا التناقض الظاهري؟

يرى ستيس أن التناقضات في النصوص الدينية هي سمة ضرورية للغة الرمزية التي تحاول التعبير عن حقيقة تتجاوز المنطق الثنائي.

وتأسيساً على هذا الفهم يرى ستيس أن الخبرة الدينية هي (تجربة حدسية) مباشرة لعالم الأزل. وهي المصدر الوحيد للمعرفة الدينية الحقيقية. هذه التجربة تتجاوز العقل واللغة وتحدث في نقطة تقاطع بين عالمنا المادي وعالم الحقيقة المطلقة. ومن خلال التمييز بين هذين النظامين يحل ستيس التعارض بين العلم والدين مؤكداً أن لكل منهما مجاله الخاص الذي لا يتعدى على الآخر. هذه هي باختصار وجهة نظر (ستيس) في الخبرة الدينية. وهي وجهة نظر جديرة بالمناقشة فسواء اتفقنا أو اختلفنا معه فلابد لنا في النهاية من الاتفاق على أمرين هامين-إذا أردنا أن نفهم الدين فهما فلسفيا.

الأمر الأول: "هو أننا يجب أن نفرق بين مصدر الظاهرة من ناحية وبين تقييمها من ناحية أخرى فهما أمران مختلفان أتم الاختلاف.

الأمر الثاني: هو أن هناك حقيقة سيكولوجية لا يمكن إنكارها إلا عن جهل وهي:

إن الإنسان يعرض له في حياته خبرات غير عادية يمكن أن نصفها بأنها (خبرات دينية) وهي خبرات نلتقي بها في آداب الأمم جميعا حتى أكثرها تحضرا وهي الخبرات التي تجعلنا نتسائل باستمرار عما إذا كان فى هذا الكون وجود روحي أعظم من الإنسان هو الذى تتطلع إليه الديانات المختلفة للجنس البشري"1.

وإن صح ذلك فما العلاقة بينه وبين الإنسان من ناحية وبينه وبين الكون بصفة عامة؟

والواقع أنه حتى التفسيرات المختلفة السابقة لنشأة الدين تفترض سلفا وجود هذه الخبرة الدينية - أعنى ذلك الموقف الذي يجد فيه الإنسان نفسه مدفوعا إلى التساؤل عما إذا كان هناك كائن روحي متعال وأنها -أي الخبرة الدينية- قد وجدت خلال مراحل التطور جميعها وأنها لهذا السبب أو ذاك قد تأصلت في أعماق الإنسان بحيث أصبحت محاولة انتزاعها منه محاولة يائسة بقدر ما هي عقيمة. وفي ذلك يقول ولتر ستيس: "الخبرة الدينية أو ذلك الحس الديني بصفة عامة يكمن في أعماق كل قلب بشري بل هو يدخل في صميم ماهية الإنسان مثله في ذلك مثل العقل سواء بسواء"2.

وإذا سلمنا مع ستيس بأن الخبرة الدينية متأصلة في أعماق الإنسان وأنها لازمته خلال مراحل تطوره المختلفة فلابد أن نسلم بالتالي بأن تفسير هذه الخبرة أو التعبير عنها قد خضع لنفس التطور الذي خضع له الإنسان وإن هذا التفسير أختلف في كل مرحلة من مراحل هذا التطور. وبعبارة أخرى إن تفسير الخبرة الدينية قد أرتبط أرتباطا وثيقا بالإطار الثقافي الذي وجد فيه فطالما أننا نتحدث عن تفسير للخبرة الدينية فهو شأنه شأن كل التفسيرات الأخرى لا بد أن يكون وثيق الصلة بالأسس الثقافية للإنسان والمرحلة التي تم فيها. ولا بد هنا من أن نبرز حقيقة هامة قد تغيب عن الكثيرين وقد تسبب مشكلات لا حصر لها وهي أنه من الخطأ تماما أن نوحد بين هذه الخبرة الدينية وبين لون معين من ألوان التفسيرات- أي الأديان- التي قدمت لها أو أن نقول:

إن الدين هو هذا الشكل المعين من الفهم الذي عبر عن الخبرة الدينية في مرحلة معينة من المراحل التاريخية لتطور الوعي الإنساني ولا شيء غير ذلك وإلا فسوف نقع في مشكلات لا حصر لها ولعل من أوضحها - مثلا - أن ينتج عن ذلك أن أتباع دين معين لا بد أن يكونوا ملاحدة في نظر أتباع دين آخر لأختلاف الفهم والتعبير عن هذه الخبرة.

وهو خلط لا يقبله عاقل لأن الاختلاف لا يعني اختلاف هذه الخبرة وإنما يعني اختلاف تفسيرها والتعبير عنها فالخبرة الدينية كغيرها من الخبرات البشرية ذات طابع واحد عند الناس جميعا. فهي لا تختلف بين الأفراد إلا بمقدار ما تختلف الخبرات البشرية الأخرى كالخبرة الجمالية أو الحسية أو غيرهما. ومع ذلك فلابد أن نلاحظ أنه إذا كانت الخبرة الدينية ذات طابع واحد عند الناس جميعا في كل زمان ومكان فإنها قد تكون بدائية ومطمورة في الأعماق عند بعض الأمم المتخلفة ومتقدمة متطورة عند الأمم المتحضرة.

ومعنى ذلك كله أن الديانات المختلفة ابتداء من الديانات البدائية إلى الديانات البشرية إلى الديانات السماوية ليست إلا تعبيرات وتفسيرات مختلفة ومتباينة لهذه الخبرة الدينية فالديانة الهندوسية والبوذية والزرادشتية مثلها في ذلك مثل اليهودية والمسيحية والإسلام إنما هي تأويل للخبرة الدينية.

والخبرة الدينية ذات طابع واحد مثلها في ذلك مثل الخبرة الجمالية التي هي في كل مكان ذات طابع واحد. معنى ذلك أن هناك خيطا مشتركا يمتد من ذلك الإنسان البدائي الذي عبر عن خبرته الدينية في عبادة الحجر والشجر حتى عبارة أبن عطاء السكندري (الكائن في الكون ولم تفتح له ميادين الغيوب مسجون بمحيطاته ومحصور في هيكل ذاته).

(كتاب غيث المواهب العلية فى شرح الحكم العطائية العارف بالله الشيخ محمد إبراهيم ابن عباد النفزي الرندي).

وإذا أسقطنا اختلاف القدرات الفردية استطعنا أن نقول:

إن الفرق بين الموقفين يرجع بالدرجة الأولى إلى الفرق بين ثقافة المجتمع البشري وحضارته في هاتين المرحلتين المتباعدتين.

معنى ذلك كله أن الفهم الفلسفي للدين ينظر إلى الخبرة الدينية على أنها ظاهرة روحية داخلية مثلها مثل ظواهر الكون الخارجية كانت واحدة على مر العصور وإن اختلف تفسيرها من عصر إلى عصر وهو التفسير الذي يخضع أساسا للتراث الثقافي للمجتمع ويكون محصلة الحضارة التي يتم فيها.

من يفهم الدين فهما فلسفيا يدرك إن (الإيمان بالله) يمثل الحد الأدنى الذي لا بد منه لقيام نسق ديني وهو بذلك  يفهم إن ماهية الدين إنما تنحصر في الخبرة الدينية لا في أي معتقد كائنا ما كان وأن كل ما اصطلحنا على تسميته بالعقائد أو المذاهب الدينية لا يخرج عن كونه نظريات تدور حول الخبرة الدينية. وإذا أردنا أن نضرب مثلا على ذلك كان في استطاعتنا أن نقول أنه على الرغم من أن ثمة أشكالا عديدة من الفن ومذاهب مختلفة من الفلسفة الجمالية وهي مذاهب قد لا تقل في تناقضها بعضها عن بعض عن العقائد الدينية المختلفة إلا إن الفن في النهاية هو الفن والاحساس بالجمال هو الاحساس بالجمال وكذلك الحال أيضا بالنسبة للديانات.

فالخبرة الدينية هي إذن موقف قديم معقد نشأ منذ أستطاع الإنسان أن يرفع رأسه إلى السماء واندهش ثم تسائل ما هذا؟

الخبرة الدينية هي تسائل قلق تكمن في أعماق الإنسان وهي تحتاج باستمرار إلى تفسيرها والتعبير عنها ولقد قدمت في الواقع ألوان لا حصر لها من التفسير لهذه الخبرة وقد يكون في استطاعتنا أن نحصر جميع هذه الأنواع في نمطين أساسيين هما:

التفسير الإيجابي وهو ما يسمى عادة (الإيمان بالله). والتفسير السلبي أو ما يسمى بالإلحاد أو عدم الإيمان بالله.

أما النمط الأول من التفسير فهو ينتهي بالأقرار بوجود كائن روحي متعال أسمى من الوجود الإنساني والوجود المادي معا هو الله مع تنوع واختلاف الصفات التي تنسب لله في الأديان.

أما التفسير السلبي فهو الذي ينكر وجود هذا الإله ولا يعترف بأي وجود من هذا النوع ويعتبر إله الأديان خرافة.

وهذان التفسيران في الواقع قد لازما الخبرة الدينية منذ مراحلها الأولى. فإذا كان التفسير الإيجابي لهذه الخبرة قد وجد مع الإنسان البدائي كما تمثل في عبادة الأرواح  وظواهر الطبيعة المختلفة فإن التفسير السلبي أي ظاهرة الإلحاد تكاد تساويها في القدم.

فلقد كتب (ديورانت) في موسوعته الفخمة قصة الحضارة عن هذا اللون من التفسير السلبي تحت عنوان: (الملاحدة البدائيون) وهو يروى أن بعض القبائل ليست لها آلهة وحين سأل رجل من قبيلة الزولو عن خالق الشمس والشجر أجاب في بساطة:

(لا نستطيع أن نعلم من أين جاءت، ويظهر أنها جاءت تلقاء أنفسها، وحين يضيف (ديورانت) بعد ذلك إن: (هذه حالات نادرة الوقوع، ولا يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقادا سليما)3.

فإنه لا يعنى بذلك سوى أن التفسير الايجابي للخبرة الدينية هو أكثر النمطين شيوعا وهذا حق لكنه لا يطعن في القول بأن الإيمان والإلحاد متلازمان منذ عصور موغلة في القدم وذلك لأنهما معا وجهان لخبرة واحدة.

مع ملاحظة أن مفهوم الله في الفلسفة ليس حقيقة موضوعية بل هو مجرد اعتبار ذهني يمكن إثباته وإنكاره معاً أي إن الأدلة العقلية كما تستطيع إثباته كذلك تستطيع نفيه أيضاً وحتى الأدلة المثبتة لوجوده لا تؤدي إلى يقين كما يقول الفلاسفة أنفسهم. ومن هذا المنطلق أي تكافؤ الأدلة ظهر موقف (اللاأدرية) المعرفي.

والفرق الجوهري بين الإلحاد واللاأدرية هو أن الإلحاد يتعلق بالاعتقاد بينما اللاأدرية تتعلق بالمعرفة. الملحد لا يؤمن بوجود إله كأصلاً أعتقاديا بينما اللاأدري يعتقد أنه من المستحيل معرفة ما إذا كان الإله موجوداً أم لا.

الملحد يقطع بيقين بعدم وجود إله. أما اللاأدري فيقطع بأستحالة معرفة ذلك.

أما في الوجدان الصوفي فالله يمثل تجربة فردية يعيشها الفرد لذاته ولكنه لا يستطيع إثباتها إلى الآخرين لأنها ببساطة نزوع نحو قطع العلائق مع الكينونة والوجود معاً نحو ذلك النور الأعظم كما يعبرون. ولكنها رحلة لراكب واحدٍ فقط يذهب ويعود لوحده وإذا ما سألناه عن رحلته وما رأى فيها لا يستطيع الإجابة!؟

وهذا ما يجعلها تجربة ذاتية فردية بامتياز حيث يستحيل نقلها عبر أي تصور أو تعبير للآخر.

ولتكتمل الصورة يجب أن نجيب عن سؤال فلسفي جوهري هو: لماذا يكون الدين ممكناً إدراكيا في العقل البشري؟

الفهم الفلسفي للدين يرشدنا إلى إن الدين ليس مجرد فكرة عشوائية ظهرت بالصدفة بل هو نتيجة طبيعية وحتمية تقريبا لكيفية عمل عقولنا. فالعقل البشري لديه مجموعة من "الإعدادات الافتراضية" أو الميول المعرفية التي تجعل من ظهور الأفكار الدينية أمرا ممكنا.

ونستطيع أن نجمل هذه الاعدادات والميول كالتالي:

أولاً: وجود الفاعل والقصد:

هذه هي الفكرة المحورية في الفهم الفلسفي للدين.

مع كل مرحلة تطور للعقل تقلصت العشوائية وزاد افترض وجود فاعل أو قصد خلف الأحداث غير المفهومة وهذا الميل العقلي كان محفزا كبيرا للبقاء.

مثلاً: إذا كنت في غابة وسمعت حركة في الأدغال فلديك خياران:

أما خيار التفسير الطبيعي: "إنها مجرد ريح".

وأما تفسير قصدي: "إنه حيوان مفترس يتربص بي".

النتيجة: إذا افترضت أنه حيوان مفترس وهربت وكانت مجرد ريح فإنك لم تخسر شيئاً سوى بعض الطاقة. أما إذا افترضت أنها ريح وكان حيوان مفترس فإنك تخسر حياتك. هنا الانتقاء الطبيعي فضل العقول التي ترتكب الخطأ الأول (افتراض وجود فاعل غير موجود) على العقول التي ترتكب الخطأ الثاني (الفشل في رصد فاعل موجود). طبق الإنسان البدائي هذا الميل المعرفي على نطاق أوسع. عندما كان يرى ظواهر طبيعية هائلة لا يفهمها كالبرق والرعد والزلازل والموت فإن العقل البشري يميل تلقائياً إلى افتراض وجود فاعل أو قصد خفي وراءها. هذا الفاعل غير المرئي والقوي هو الخطوة الأولى نحو فكرة الإله أو الأرواح.

ثانياً: القدرة على التفكير في أمور غير موجودة:

العقل البشري لديه قدرة فريدة على تخيل وتصديق تصورات تخالف النمط اليومي عن الحياة. والأفكار الدينية غالبا ما تكون مخالفة للواقع بشكل مفارق مما يجعلها غريبة وفريدة فترسخ في العقل وتنتشر لاحقا بين الأفراد لغرابتها فهي مثيرة للأهتمام وبنفس الوقت بسيطة بما يكفي لتذكرها ونقلها. وهذه بداية ولادة الأساطير والخرافات.

ثالثاً. الفهم الفطري للثنائية:

يميل العقل البشري إلى الفصل بشكل فطري بين العقل والجسد. نحن نشعر بأن أفكارنا ووعينا و"ذواتنا" هي شيء مختلف عن لحمنا ودمنا.

هذه الثنائية الفطرية تجعل من السهل جداً تصور إمكانية استمرار العقل أو الروح في الوجود بعد موت الجسد المادي. فكرة الحياة بعد الموت والأرواح والخلود كلها تصبح ممكنة ومقبولة بسهولة بسبب هذا الميل الثنائي. ومما عزز هذا الميل هو الحلم فقد كان الإنسان البدائي يرى أقربائه الذين ماتوا في الحلم ولا يعرف تفسيرا له في ذلك الوقت الموغل في الجهل إلا أنهم لا زالوا أحياء في مكان آخر من هنا نشأت فكرة (الآخرة).

رابعاً: البحث عن الغاية والمعنى:

يميل العقل البشري إلى الاعتقاد بأن الأشياء موجودة لغاية وهدف معين.

عندما نطبق هذا التفكير الغائي على الكون بأسره نصل إلى أسئلة مثل: "لماذا نحن هنا؟" و"ما هو الغرض من وجود الكون؟". الدين يقدم إجابات مباشرة ومنظمة لهذه الأسئلة الغائية العميقة مما يلبي حاجة معرفية أساسية لدى الإنسان.

خامساً: الحاجات النفسية والاجتماعية:

إلى جانب هذه الميول المعرفية يلبي الدين حاجات نفسية أساسية تجعله ممكنًا ومرغوبا فيه مثل: الراحة الوجودية حيث يقدم الدين عزاءً أمام حتمية الموت ومعنى في وجه المعاناة ونظاما في عالم قد يبدو فوضويا.

ويوفر أيضا حاجات اجتماعية للأفراد فيدخلون في مجموعة مشتركة من الطقوس والمعتقدات والقيم الأخلاقية التي تربط الأفراد معا في مجتمع واحد مما يعزز التعاون والبقاء.

أخيرا نفهم أن الدين ليس مجرد بناء ثقافي اعتباطي بل هو منتج طبيعي لتطور العقل البشري. إن ميولنا المعرفية لاكتشاف الفاعلين وتصور كائنات غير مرئية وفصل العقل عن الجسد والبحث عن الغاية تجعل من ظهور الأفكار الدينية وانتشارها أمرا شبه حتمي في تاريخ البشرية. لهذا السبب  يكون الدين دائمًا "ممكنًا من ممكنات العقل الإنساني".

***

سليم جواد الفهد

......................

1. إمام عبد الفتاح إمام، الخبرة الدينية والإيمان، الفكر المعاصر، العدد11، 1970.

2. ولتر ستيس، الزمان والأزل: مقال في فلسفة الدين، ترجمة الدكتور زكريا إبراهيم ومراجعة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، ص40.

3. وول ديورانت - قصة الحضارة - ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، الجزء الاول ص98 - 99.

في المثقف اليوم