أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: لماذا سخر برتراند راسل من الفلاسفة الامريكيين؟

عُرف راسل بنقده الشهير للفلاسفة الامريكيين أمثال وليم جيمس ونظرياته الثورية حول الحقيقة. طبقا لراسل، جيمس والبرجماتيون الامريكيون الآخرون عرّفوا الحقيقة وفقا لما هو مريح ومفيد مؤقتا، بينما الحقيقة هي حول المطابقة للواقع الموضوعي. لكن هجوم راسل يرتكز على كاريكاتير حسبما يرى الفيلسوف جون كاج (1). جيمس والبرجماتيون الامريكيون كان لديهم تفسيرا معقدا جدا تأسس على الاعتراف باننا لن نستطيع ابدا الوصول الى الحقيقة النهائية او نواجه الواقع كما هو. بدلا من ذلك نحن نتعامل مع الواقع من خلال التجربة والحوار المستمر مع العالم الذي يقاومنا.

ان النزاع بين وليم جيمس وبرتراند راسل حول طبيعة الحقيقة هو حدث غير مألوف في تاريخ الفلسفة، دراما تعتمد على الكاريكاتير: جيمس، البرجماتي الامريكي يختزل الحقيقة الى أي معتقد يكون مفيدا ومريحا، بينما راسل يكشف بنقده القوي والواضح سخافة هذا الموقف. يقول راسل ان الحقيقة truth يجب ان تكون شيئا اكثر مما يعمل. انها يجب ان تتطابق مع الحقائق الموضوعية facts، ولاتختلف طبقا لاهتمامات الانسان وحاجاته العرضية.

انها معارضة أنيقة، يرى كاج ان الإغواء يكمن في أناقتها. لكن كما في العديد من المعارضات الفلسفية التي تعيش بفعل التكرار، هي تفشل في القبول بأفضل موقف لتفكير الخصم السليم والواضح المدعوم بالمنطق. للتوضيح اكثر: جيمس لم يدّع ابدا ان الحقيقة مسألة راحة وملائمة او منفعة مؤقتة. جون ديوي ارتكب هذا الخطأ صدفة، لكن جيمس لم يفعل ذلك. برجماتية جيمس، في جوهرها، هي فلسفة تجربة – ليست تجربة في المعنى العابر والذاتي وانما تجربة ممتدة اجتماعيا ومختبرة عبر الأسطح غير المستوية للواقع. هي لا تختلف عن تصوّر سي اس بيرس C.S.Peirce للحقيقة كتقريب للحقائق في المدى الطويل اللامحدود، والمختبرة علميا بالملاحظة والتجربة. حالما يُفهم هذا، يبدأ نقد راسل بالتعثّر.

تفسير راسل للمسألة واضح. في (مشكلة الفلسفة)، هو يكتب: "نظرية المطابقة للحقيقة تكمن في الرؤية بان العقيدة هي صحيحة عندما تكون هناك حقيقة مطابقة وهي زائفة عندما لا توجد هناك حقيقة مطابقة".

جاذبية هذه الرؤية واضحة: انها تأمل بإبقاء الحقيقة موضوعية، لتعزلها عن هشاشة الانسان، عن تدفق الشعور والموضة. لكن هذا العزل يأتي بسعر باهض. انه يتجاهل او على الاقل يقلل من قيمة حقيقة ان البشر لايواجهون الواقع كما هو – هم يواجهونه من خلال التجربة، من خلال الحوار التدريجي مع العالم الذي يقاومهم.

الحقيقة لا تُصنع من الافضليات، انها تُكتشف في عمل الحياة

موقف جيمس الرافض ليس ان المطابقة خاطئة، وانما هي كسولة ابستيمولوجيا ما لم يتم تجسيدها بطرق يستطيع الكائن البشري التثبت منها او، تكذيبها. في البرجماتية، هو يكتب: "الحقيقة .. هي فقط ما هو ملائم من حيث الطريقة التي نتصرف بها". هو يضيف قائلا ان "الملائم" هنا يجب ان لا يلتبس مع ما يمكن الاتفاق عليه او مفيد بشكل عابر. ليست المكافأة الفورية للعقيدة هي التي تجعلها صحيحة وانما قدرتها على العمل "في المدى الطويل وفي التجربة الكلية للحياة".

هذا ما لم يدركه راسل في نقده الساخر لجيمس وهو النقد الذي ساعد في إبعاد البرجماتية عن الانظار كموقف ابستيمولوجي جاد قرابة مائة عام. معارضته للبرجماتية انطوت على قصر نظر وكولومبس معروف جيدا. "طبقا للنظرية البرجماتية"، هو يكتب في (مشاكل الفلسفة)، "اننا يجب علينا التحقق من مدى فائدة الاعتقاد ان كولومبس عبر الاطلسي عام 1492 ام في عام 1491 او في 1493، والتاريخ الذي بدى اكثر فائدة سيكون اكثر صحة".

ان التأثير البلاغي قوي لكن هنا مغالطة تخلق وهم الفوز في ادّعاء الحقيقة من خلال تفنيد موقف لم يتم تبنّيه ابدا. جيمس لم يقترح في أي مكان ان المعتقدات حول الماضي يمكن صنعها عبر الملائمة. بل هو يصر على ان العقائد يجب ان تواجه محكمة التجربة، وان "ما تنفيه التجربة" هو فقط الارضية الصلبة . ان الحقيقة لا تُصنع من التفضيل، انها تُكتشف في عمل الحياة. هذا يفسر لماذا يقول جيمس وبانسجام "اننا نعيش في عوالم من الواقع يمكن ان تكون مفيدة لنا بما لانهاية لو عرفنا كيفية التعامل معها بافكارنا بشكل صحيح". معيار الحقيقة هو مقاومتنا للواقع، معروض ليس في تأمل منفصل – من كرسي بذراعين وجاكيت تدخين مريح – وانما في الاختبار الصبور للعقيدة من خلال التجربة.

معارضة راسل الثانية للتصور البرجماتي للحقيقة، تستلزم ان يكون لدى بابا نويل بناء مشابه. اذا كانت الحقيقة هي ما يعمل، لماذا لا ندّعي ان الايمان ببابا نويل هو صحيح طالما هو مقنع للمؤمن به؟ راسل يقول شيء قوي وبذكاء مميز: "لو اعتقدت انني امبراطور الصين، والعقيدة لها آثار عرفية لإراحتي وتمكيني من اداء عملي بشكل افضل، ذلك يكفي لجعل عقيدتي صحيحة؟".

بالطبع ليس كذلك. لكن هذه المعارضة مرة اخرى تتجاهل اصرار جيمس على ان ما "يعمل" يجب ان يقوم بهذا بطريقة مستمرة واجتماعية ومرتبطة بالواقع. "التجربة" طبقا لجيمس، (يكتب في معنى الحقيقة)، هي "المحكّم النهائي للحقيقة، وان كل نظرية يجب ان تخضع لإختبارها". العقيدة التي تحمي نفسها من التحقق المجتمعي في المدى الطويل، والتي لا تستطيع الصمود امام الضغط المتصاعد للدليل او التجربة التصحيحية للاخرين، ليست صحيحة براجماتيا – انها هشة، عابرة، ومحكوم عليها بالانهيار.

لذلك، فان ابستيمولوجية جيمس ليست ترخيصا بالتفكير الرغبوي وانما التزام بضوابط التحقيق. المعتقدات تُختبر ليس فقط ضد الممارسات المشتركة لحياة الانسان. هذا يفسر لماذا يستطيع جيمس الادّعاء ان "الحقيقة تُصنع من عمليات التثبت او المصادقة " – لم تُخترع حسب الرغبة وانما تصبح مرئية وصادقة من خلال ممارسات الاختبار التجريبية والاجتماعية، والصقل، وتصحيح العقيدة.

استنتاج راسل كمنطقي يحجب هذه النقطة العميقة. هو يعرض الحقيقة كعلاقة ثابتة بين الافتراض والواقع المستقل. لكن جيمس لايهتم كثيرا بتعريف الحقيقة وهي ثابتة بل يهتم ببيان الكيفية التي يقترب نحوها الكائن البشري المحدود والعرضة للخطأ. البرجماتية لا تختزل الحقيقة الى قناعة خاصة، انها تعترف بان الحقيقة تعيش في عالم الممارسة، عرضة الى مفاوضات مستمرة بين العقيدة والواقع.

يؤكد جيمس هنا وبشكل هام جدا على اجتماعية التجربة، اختبار العقيدة ليس شأنا فرديا، انه يتم تضمينه في ممارسات العلم،والتاريخ والتفكير اليومي. العقائد التي لا تستطيع النجاة من هذا الاختبار المجتمعي تُكشف عن حقيقتها: اخطاء، طوباويات، او راحة وملائمة مؤقتة.

في هذه الطريقة، تحافظ برجماتية جيمس على الموضوعية – ليس بإنكار خصوصية او سياق التحقيق وانما بالاصرار على ان الاختبار الطويل الامد للعقيدة في التجربة هو افضل تقريب للوصول الى الواقع.

الحقيقة، في النهاية، لا تُعطى لنا، انها ليست شيئا نمتلكه مرة واحدة الى الابد

قلق راسل يُعتبر مشروعا في جانب واحد: البرجماتي يجب ان يتجنب انهيار الحقيقة الى فائدة مؤقتة او اتفاق محلي. لكن جيمس واع تماما بهذا الخطر. هو يميز بوضوح بين "الحلول الذاتية المريحة و المؤقتة" للعقيدة و العملية الأصلب والأبطأ التي يتم بواسطتها التحقق منها في تجربة الحياة الواسعة. برجماتية جيمس تتطلب الصبر والانضباط والانفتاح للتصحيح.

ان الفلسفة في أفضل حالاتها تتحدث الى ظروف الحياة الانسانية. فلسفة جيمس في التجربة بُنيت لمخلوقات تعيش ضمن زمن، وتتعلم من خلال التجربة والخطأ، وتعتمد على الآخرين لصقل عقيدتها. تصوّر راسل للحقيقة (وبطريقة يبدو فيها متعجرفا) وكأنها تطفو فوق هذه الظروف الانسانية. انها تشبه رجل مربوط جيدا فوق الارض الى بالون.

الحقيقة، بالنهاية، ليست شيئا يُعطى لنا، ولا هي شيء نمتلكه الى الابد. انها شيء نسعى اليه، شيء نختبره، شيء نتفاوض عليه مع الحقائق المقاومة في العالم. "الحيوات الحقيقية"، حسب جيمس، الذي يكتب حول نظام الإئتمان. أفكارنا وعقائدنا "تنجح"، طالما لاشيء يتحدّاها، تماما مثل اوراق البنك النقدية تنجح طالما لا تُرفض". ولكن في اللحظة التي تُستدعى فيها التجربة في ذلك الإئتمان – عندما يرفض الواقع قبول قصصنا المريحة – حينذاك سيأتي الحساب لا محالة.

كلمة أخيرة حول النقد الفلسفي غير العادل. البرجماتيون لم يكونوا ضحايا عاجزين امام هجوم راسل. هم ربما لاذعين وغير فضلاء ايضا. صديق جيمس القديم سي اس بيرس، كتب الى الفيلسوفة السيدة فكتوريا ويلبي التي اجرت العديد من المراسلات مع راسل: "بالنسبة لكتاب راسل، انا عملت فحصا قليلا له لكنه يكفي ليتبيّن لي انه مهما كانت المزايا التي يمتلكها فهو ملخّص لما فعله الآخرون، انه متظاهر ومتعصب، نسب لمؤلفه فضلا لايمكن ان يُنسب له".

الفلاسفة يمكن ان يكونوا خبثاء جدا، لكن عندما تتعرض الحقيقة للهجوم (كما هي اليوم)، ربما يكون هذا هو الحل الافضل للاشخاص العقلانيين بيننا (والذين من بينهم جيمس و بيرس و وراسل) ان لا يراوغوا كثيرا حول التفاصيل، ويلاحظوا ان هناك امورا كارثية كثيرة عندما يتعلق الامر بوضع الحقيقة.

***

حاتم حميد محسن

....................

Russell Vs American philosophers and the attack on truth, iai.tv, 12 May 2025

(1) جون كاج John Kaag بروفيسور الفلسفة في جامعة Massachusetts Lowell ونائب رئيس جمعية وليم جيمس. 

في المثقف اليوم