أقلام فكرية

زهير الخويلدي: الوعي بزمانية الوجود البشري

بين مواجهة العجز الفكري ومعالجة الاخفاق العملي

مقدمة: الوعي بزمانية الوجود البشري – أي إدراك الإنسان لكونه كائنًا محدودًا بالزمن، مولودًا في لحظة وميتًا في أخرى – هو من أعمق الخبرات الإنسانية وأكثرها إثارة للقلق. هذا الوعي ليس مجرد معرفة نظرية بمرور الزمن، بل هو تجربة وجودية تُلقي بالإنسان في مواجهة مباشرة مع عجزه الفكري عن استيعاب الزمن كاملاً، ومع إخفاقاته العملية في استغلال اللحظة المحدودة. في هذه الدراسة، نستكشف هذا الوعي كمحور مزدوج: من جهة، كاشف للعجز الفكري الذي يتجلى في محاولة العقل فهم الزمن خارج حدوده، ومن جهة أخرى، كمعالج للإخفاق العملي من خلال تحويله إلى دافع للعيش الأصيل. نعتمد في تحليلنا على أعمال مارتن هيدجر في الوجود والزمن، جان بول سارتر في الوجود والعدم، ألبير كامو في أسطورة سيزيف، فيكتور فرانكل في الإنسان يبحث عن المعنى، بالإضافة إلى إشارات إلى الفكر الإسلامي الصوفي (الغزالي وابن عربي) والفكر البوذي حول اللحظة الحاضرة. نهدف إلى إظهار كيف يتحول الوعي بالزمن من مصدر قلق إلى أداة للتحرر، متجاوزًا الانقسام بين التأمل الفكري والفعل العملي.

الوعي بزمانية الوجود: الأساس الوجودي

يبدأ الوعي بزمانية الوجود البشري من اللحظة التي يدرك فيها الإنسان أنه "مرمي" في الزمن، كما يعبر سارتر. ليس الإنسان كائنًا أزليًا، بل هو كائن يبدأ وينتهي، يولد دون اختيار ويموت دون سيطرة. هذا الوعي ليس معرفة بيولوجية فحسب، بل هو تجربة أنطولوجية تكشف عن هشاشة الوجود. في الوجود والزمن، يصف هايدجر هذا الوعي بـ"الوجود-نحو-الموت" ، حيث يصبح الموت ليس حدثًا مستقبليًا، بل هو الإمكان الأكثر يقينًا وشخصية في حياة الإنسان. هذا الوعي يُخرج الإنسان من الغفلة اليومية – ما يسميه هيدجر "السقوط في الـهم On" – ويُلقيه في مواجهة ذاته الأصيلة. لكن هذا الوعي لا يأتي دائمًا كإشراق، بل غالبًا كقلق. الزمن هنا ليس ساعة موضوعية، بل هو "الأفق الذي يُفهم من خلاله الوجود"، كما يقول هيدجر. الإنسان يعيش في ثلاثة أبعاد زمنية مترابطة: الماضي (الذي يُلقي به)، الحاضر (الذي يُرمى فيه)، والمستقبل (الذي يُرمى نحوه). هذا الوعي يكشف عن عجز فكري أساسي: العقل لا يستطيع استيعاب الزمن ككل، لأنه جزء منه. كما يشير كانط في نقد العقل الخالص، الزمن هو شكل حدسي للحس الداخلي، لا يمكن تجاوزه. ومع ذلك، فإن محاولة فهم الزمن تُولد إحساسًا بالعجز، حيث يصطدم العقل بحدوده.

مواجهة العجز الفكري: الزمن كلغز لا يُحل

العجز الفكري الناتج عن الوعي بالزمن يتجلى في عدة أشكال.

 أولاً، في محاولة العقل فهم "الأبدية" مقابل "الزمنية". الإنسان يتوق إلى الخلود، لكنه محكوم بالفناء. هذا التوتر يُولد ما يسميه كيركغورد "اليأس"، حيث يحاول الإنسان أن يكون أزليًا داخل زمنيته. في الفكر الصوفي الإسلامي، يعبر الغزالي عن هذا العجز في إحياء علوم الدين بقوله إن العقل محدود، ولا يدرك إلا الظلال، بينما الحقيقة في القلب. محاولة العقل استيعاب الزمن تؤدي إلى تناقضات: كيف نفهم "قبل الولادة" أو "بعد الموت"؟ العقل يصطدم بجدار اللامتناهي.

ثانيًا، العجز يظهر في فشل الفلسفة التقليدية في حل لغز الزمن. أرسطو يعرفه كـ"عدد الحركة حسب القبل والبعد"، لكنه لا يفسر لماذا نشعر بالزمن كضياع. أوغسطينوس في الاعترافات يتساءل: "ما هو الزمن؟ إذا لم يسألني أحد، أعرف؛ إذا أردت أن أشرح، لا أعرف". هذا العجز ليس فشلاً، بل هو دعوة لتجاوز العقل نحو الوجود. كامو في أسطورة سيزيف يرى أن الوعي بالعبث – الذي ينبع من الزمن المحدود – هو بداية التمرد. العجز الفكري إذن ليس نهاية، بل هو البوابة للعيش الأصيل.

معالجة الإخفاق العملي: الزمن كفرصة للمعنى

إذا كان الوعي بالزمن يكشف العجز الفكري، فإنه في الوقت نفسه يُعالج الإخفاق العملي. الإنسان يعيش في روتين يومي يُنكر فيه زمانيته: العمل الرتيب، الاستهلاك، الهروب إلى الترفيه. هذا الإخفاق العملي هو "السقوط" عند هيدجر، حيث يعيش الإنسان كـ"الكل"، غير مدرك لفرديته. الوعي بالموت يُخرجه من هذا السقوط، ويُلزمه بالاختيار الأصيل.

فيكتور فرانكل، الناجي من المعتقلات النازية، يُظهر في الإنسان يبحث عن المعنى كيف تحول الوعي بالزمن المحدود المعاناة إلى معنى. في المعتقل، حيث كان الموت يوميًا، لم يكن السؤال "كم سأعيش؟" بل "كيف أعيش اللحظة؟". الوعي بالزمن يُحول الإخفاق العملي – الفشل في العمل، العلاقات، الأهداف – إلى فرصة. كل إخفاق يصبح درسًا، لأن الزمن محدود. سارتر يعبر عن هذا بـ"المشروع"، حيث يُعيد الإنسان تعريف نفسه في كل لحظة.

في الفكر البوذي، يُعرف الوعي بالزمن كـ"الانتباه إلى اللحظة الحاضرة". الإخفاق العملي – الندم على الماضي أو القلق من المستقبل – يُعالج بالتركيز على "الآن". هذا التركيز ليس هروبًا، بل هو مواجهة: اللحظة هي المكان الوحيد للفعل.

 كامو يُكمل هذا بـ"التمرد"، حيث يدحرج سيزيف الصخرة يوميًا، مدركًا عبثيتها، لكنه يجد في الفعل نفسه الانتصار.

التوازن بين العجز والمعالجة: نحو العيش الأصيل

الوعي بزمانية الوجود لا يُقسم بين عجز فكري ومعالجة عملية، بل يجمعهما في ديناميكية واحدة.

العجز الفكري – عدم القدرة على فهم الزمن – يُحرر الإنسان من الوهم، ويُلزمه بالفعل. كما يقول هيدجر، "القلق يكشف الوجود". هذا القلق ليس مرضًا، بل هو الدعوة للأصالة. في المقابل، المعالجة العملية للإخفاق لا تكون بإنكار الزمن، بل باحتضانه. الإنسان الذي يدرك أن وقته محدود يتوقف عن التأجيل، يختار بحرية، ويُعطي معنى لكل لحظة.

في السياق الحضاري، يعبر ابن عربي في فصوص الحكم عن هذا التوازن بـ"الفناء في اللحظة"، حيث يصبح الإنسان شاهدًا على الله في كل آن. الوعي بالزمن هنا ليس خوفًا من الموت، بل شكرًا للحياة.

 هذا التوازن يظهر أيضًا في الرواقية، حيث يقول ماركوس أوريليوس: "فكر في كل يوم كأنه آخر يوم، وستعيش بسلام".

خاتمة

الوعي بزمانية الوجود البشري هو تجربة مزدوجة: كاشفة للعجز الفكري، ومعالجة للإخفاق العملي. العجز ليس نهاية، بل هو البداية؛ فشل العقل في استيعاب الزمن يُحرر الإنسان من الأوهام، ويُلزمه بالعيش في اللحظة. أما الإخفاق العملي، فيُصبح مادة للمعنى عندما يُواجه بوعي. الإنسان ليس ضحية زمنه، بل هو صانع معناه داخل حدوده. كما يقول كامو: "يجب أن نتخيل سيزيف سعيدًا"، لأن سعادته في الفعل المستمر رغم العبث. في النهاية، الوعي بالزمن ليس لعنة، بل هو النعمة التي تُذكرنا بأن كل لحظة هي فرصة لنكون أكثر إنسانية، أكثر حرية، أكثر أصالة.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

في المثقف اليوم