أقلام حرة

صادق السامرائي: صناع التأريخ لا يكتبونه!!

من يصنع التأريخ لا يكتبه، لأن وقته مستثمَر في تلك الصناعة، والذين يكتبون التأريخ يدوّنون أحداثه، فتختلط مواقفهم منها ووجهات نظرهم عنها بما يدونون، فتكون المدونات التأريخية مؤشرات أو دالات على أن الحدث قد حصل، أما تفاصيله وآلياته وتفاعلاته فتكون في قبضة الرؤى والتصورات والمواقف للكاتب.

وكلما تمادت القوة في صناعة التأريخ، قلت فرصة تدوين ما أنجزته، وهذا ينطبق على الدولة الأموية التي كانت كالإعصار المتوثب، الذي إنطلق مدويا في رحاب الأرض، فتحققت الفتوحات وبلغت ذروتها.

وعندما جاء العباسيون بقيادة أبو مسلم الخراساني، وتسنم أبو العباس السفاح الخلافة، كاد أن يقضي على الدولة الشاسعة ويمزقها، لإنشغاله في إبادة الأمويين، ولولا تدخل الأقدار وموته المبكر، وتولي أبو جعفر المنصور الخلافة، الذي إستطاع أن يحافظ على معظم أرجاء الدولة ويزيد في إحكام السيطرة والإنطلاق بها إلى مديات جديدة، فهو المؤسس الحقيقي لها.

وفي عصره بدأت الجهود الحثيثة للتنوير الفكري من الترجمة والتدوين إلى إنبثاق العلوم الأخرى وتطورها وسيادتها على الوجود الإنساني.

وكانت الدولة الأموية تعتبر غير العربي من الموالي، أما الدولة العباسية فللموالي دورهم القيادي المؤثر في مسيرتها، وهم الذين دوّنوا ما إستطاعوه من الماضي والمعاصر في زمانهم ، ولهم ربما يعود الفضل في الثورة المعرفية المشرقة التي قادتها بغداد والبصرة والكوفة.

فالعباسيون نقلوا الشفاهي المتداول إلى الورق. ومضت الحالة في تصاعدها حتى إنتقال العاصمة العباسية من بغداد إلى سامراء سنة (222) هجرية، فإنكمشت النشاطات المعرفية، خصوصا عند مداهمة الفوضى للحياة بعد مقتل المتوكل سنة (248) هجرية، وحتى إنتقال العاصمة إلى بغداد سنة (279) هجرية، وهذا يفسر قلة المدونات عن النشاطات العلمية والثقافية التي جرت في سامراء، أثناء دورها كعاصمة للدولة العباسية، كما أن الأتراك هيمنوا على مقاليد الأمور، وإنهمكوا في صراعات داخلية وحروب خارجية أبعدتهم عن التدوين والعلم، وكانوا يكتبون بالسيف والدم، ويجيدون صناعة المحن والأحزان، وهم الذين أسهموا في تخريب قصورها الفيحاء!!

فصانع الأمجاد لا يدونها، وذووا الأقلام لا يشاركونها، فيكتبون عما تصوروه عنها، فتكون المسافة شاسعة بين المدون والمنجز.

دماءٌ في مداد الخط تسعى... بما نظروا إليها سوف تُدعى، إذا صنعوا الملاحم جاوزوها... وأغرابٌ بها جادوا كصرعى، مدوّنة بأيامٍ خطاها... فمَن أدرى بمن فيها سيُنعى!!

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم