أقلام حرة
عماد خالد رحمة: الانتصار الذي يقود إلى الهزيمة

مأساة الإمبراطوريات العابرة
إنَّ في أعطاف التاريخ عبرًا لا تنضب، وفي طياته ملامحَ لإمبراطورياتٍ اعتقدت، في عنفوان سطوتها، أنّ كسب المعاركِ هو الضمانة الأبدية للبقاء، وأنّ زخَّات النصر الجزئي تُغني عن عمق الرؤية وشمولية الغاية، لكن سرعان ما انطفأت نجومها، وانكسرت تحت وطأة ما لم تحسب له حسابًا: إنها الهزيمة الكبرى، لا في ساحة القتال، بل في ميدان البقاء الوجودي والرسالي، في اختبار الأخلاق والتاريخ والوعي الجمعي.
فالإمبراطوريةُ التي تكسب المعارك وتخسر الحروب، هي كيانٌ يبدو جبارًا في لحظة، هشًّا في المصير، تتكدّس لها الانتصارات الصغيرة كما تتكدّس الغيوم في الأفق، لكنها غيومٌ بلا مطر، تصنع برقًا بلا ديمومة، وتملأ الأرض هديرًا لا يغيّر المجرى.
بين كسب المعركة وخسارة الحرب
إنَّ الفرقَ بين المعركة والحرب ليس مجرّد فارقٍ اصطلاحي، بل هو فارقٌ في المعنى الجوهري للتاريخ.
المعركة قد تُخاض في ميدانٍ محدود، وتُكسب بفضلِ خطّةٍ محكمة أو تقنية متفوقة أو حتى صدفةٍ مواتية، بينما الحرب هي مجموع الرؤى والاستراتيجيات والمآلات، هي امتحان التاريخ للنية والمنهج والهدف.
فما أكثر الإمبراطوريات التي تغنّت بسجلها العسكري، وملأت كتبها بانتصاراتها الكمية، ثم لم تلبث أن سقطت، لا لأنها هُزِمت على الأرض، بل لأنها خسرت الأرضية الأخلاقية، وانفصلت عن شعوبها، وعن رسالتها، وتحولت من مشروعٍ إلى جثة ترفل بوشاحٍ مزيّف.
أمثلة من التاريخ:
روما كسبت معارك كثيرة ضد أعدائها، لكنها ما إن تفسّخت أخلاقيًا، وتحولت إلى مسرحٍ للنزوات والانقسامات الطبقية، حتى غابت شمسها، وتهدّمت على يد قبائل لم تبلغ نصف قوتها العسكرية.
النازية ربحت معارك عديدة، وجابت مدرّعاتها أوروبا من أقصاها إلى أقصاها، لكنها خسرت الحرب لا بسبب بندقية، بل بسبب فكرة، إذ لم تستطع أن تُبرّر وجودها إلا بالقمع، ولا أن تسوّغ تفوقها إلا بالإقصاء، فسقطت كما يسقط كائن بلا روح.
الاتحاد السوفيتي أذهل العالم بسباق التسلّح وبقوة الاستخبارات وبانتصاراته الاستراتيجية، لكنه خسر الحرب الوجودية لأنه خسر الإنسان، سحق الفرد لحساب الدولة، فانهارت الجدران التي رفعها حول وهم القوة.
عندما تغرب الشمس
حين تغرب شمسُ الإمبراطورية، لا تغرب فجأة، بل تبدأ الغيوم بالتراكم في سمائها من حيث لا يُرى:
في الأخلاق المتداعية،
في النخب المنعزلة،
في ازدراء الشعوب،
في غياب الغاية الجامعة،
وفي تحوّل الانتصارات العسكرية إلى غنائم نسي فيها المنتصر لماذا بدأ.
فما فائدة أن تكسب الإمبراطوريةُ ألف معركة، وقد خسرت معركة المعنى؟
وما نفع أن تزرع في كل مدينة تمثالًا لقائدٍ عسكريّ، وقد ماتت القيم التي قامت عليها أول مرة؟
إنّ الإمبراطورية التي تنتشي بسجّل المعارك، ولا تلتفت إلى عمق المآلات، هي عربةٌ تسير فوق سكّةٍ مقطوعة، مهما بدا الموكبُ مهيبًا، فإنَّ النهاية حتمًا إلى هاوية.
الأخلاق هي الخيط الأخير:
لا تنتصر الإمبراطوريات بالسلاح وحده، ولا بالدبلوماسية ولا بجبروت الاقتصاد، بل تنتصر حين تتّسق مع روح الإنسان، وتحمل قيمة عليا تتجاوز القوة نحو المعنى.
وإذا سقطت القيم من مشروعها، فإنّ كل نصرٍ عسكري يتحول إلى خرافة، وكل معركة رابحة تتحول إلى دليل على عمى البصيرة.
قلْ إذًا، في لحظةٍ فارقة:
إذا كسبت الإمبراطوريةُ المعاركَ وخسرتِ الحروب، فقلْ: غربت شمسها.
فالشمس لا تشرق على صليل السيوف فقط، بل على المعنى، والعدل، والرسالة.
ومن خسر ذلك، خسر كلّ شيء، وإن انتصر في كلّ شيء.
***
بقلم : عماد خالد رحمة - برلين