أقلام حرة

علي الطائي: موالُ الحزنِ.. في عراقِ المأساة

في أرضٍ كانت تُغنّي، باتت تبكي. في البلاد التي خطّت أولَ حرف، وغنّت أولَ نشيدٍ للخلود، يعلو اليومَ نشيدٌ آخر... نشيدٌ من نحيبٍ طويلٍ يُشبه الموال، لا يَعرفُ لحنًا غير الحزن، ولا مقامًا سوى الناي الجريح. هنا، في العراق، كلُّ شيءٍ يبدو كأنه يتذكّر، يتذكّرُ مجدًا لا يعود، وجرحًا لا يندمل. تمشي على التراب، فينحني لك كأنّه شيخٌ تعب من الوقوف، وتُصغي للريح، فتسمعها تقرأ لك مراثي أور وسومر وبابل، ثم تبكي معك في صمت.

أرضُ الأنبياءِ والملوكِ والشعراءِ، صارت ساحةً لمآتمٍ لا تنتهي، وصراخٍ لا يعلو إلا ليُدفن، وأرواحٍ تتجوّلُ في الأزقة كأنها تنتظرُ خلاصًا لم يُكتب.

أيُّ موالٍ هذا الذي لا يسكت؟ وأيُّ فمٍ هذا الذي وُلد ليبكي فقط؟

في العراق، حتى الولادات تُستقبل بالنواح، وحتى الأعراس تُقام في ظلّ حدادٍ مؤجَّل.

الشمسُ تطلعُ هناك من عيونِ الثكالى، لا من خلفِ الجبال، والقمحُ لا ينبتُ إلا من دماءِ العابرين. ومَنْ قال إنّ دجلةَ يضحك؟ لقد صارَ النهرُ شاهدًا على المجازر، ناطقًا باسمِ الخراب، يروي لنا – كلما عبرناه – حكايةَ شهيدٍ لم يُدفن، وأمٍّ ما زالت تُعدُّ الغداءَ لابنٍ غاب منذ سنين.

العراقُ... ليس وطنًا فقط، بل قصيدةٌ مكسورة، قصيدةٌ حاولَ الشعراءُ ترميمها فلم يفلحوا، لأنّ الحرفَ في بلادِ النكبةِ لا يُكتب بالحبر، بل بالنحيب.

كيف نكتبُ عن العراق؟ بأيِّ لسانٍ نترجمُ وجعه؟

هو الذي صارَ كلُّ جزءٍ فيه مأساةً قائمة، من الجنوبِ المبتلِّ بالوجعِ، إلى الشمالِ المُحمَّلِ بالأسى، ومن بغدادَ التي أرهقها العرشُ والخيانةُ معًا، إلى الموصلِ التي لا تزالُ تفتّشُ عن ظلِّها في الركام.

هل تذكرون حينَ كانت بغدادُ تُعلّمُ الدنيا الفصاحة؟

الآن، تعلّمُنا كيف نصمتُ أمامَ الفجيعة.

هل تذكرون بابلَ حين كانت ترفعُ بوّاباتها نحو السماء؟

الآن، تسألُ السماء عن عدالةٍ لم تنزل.

ويا لهذا "الموال"... كم خُيِّلَ لنا أنّه سيُغنّى للهوى، فإذا به يُغنّى للقبور.

وكم ظننّا أنّ العودَ سيعزفُ للفرح، فإذا به وترٌ مبتورٌ بين أصابعِ اليتامى.

وكم حسبنا أنّ الناي سيُهدهدُ الساهرين، فإذا به ينوحُ مع من بقيَ من العقلاءِ، على ما تبقّى من وطن.

في عراقِ المأساة، لا أحدَ يسألُ: "هل سننجو؟"

بل الجميعُ يتساءل: "هل نحنُ أحياءٌ حقًّا؟ أم نحنُ شخوصٌ في مَشهَدٍ كابوسيٍّ طويل؟"

لكن... ورغم كلّ هذا، ما زال في العراقِ موالٌ آخر، لا يُشبه الحزن. موالٌ صغير، يهمسُ به طفلٌ في مدرسةٍ طينية، أو راعٍ في سهلٍ منسيّ، أو عجوزٌ تحيكُ وشاحًا لابنٍ أسير.

موالٌ اسمه "الصبر"، وآخرُ اسمه "الرجاء"، وثالثٌ اسمه "الوطن"، وإنْ خَفَتَ صوتُه وسط العويل، فهو باقٍ، يشتعلُ في الصدور كجمرةٍ لم تُطفأ.

العراقُ... هذا الموالُ العظيم، الممزوجُ بالبكاءِ والمقاومة، سيظلّ يُغنّى... حتى يعودَ الحرفُ إلى لوحِ الطين، والصوتُ إلى نايِ سومر، والبهجةُ إلى سماءِ النخيل.

***

د. علي الطائي

30-7-2025

في المثقف اليوم