أقلام حرة

محمد صبي: الفضول كأس مملوء بيد الفاضل والرذيل

الفضول هو الدافع الباطني الذي يشعل شرارة السؤال ويحرّك بوصلات العقل نحو المجهول، لكنه في مجتمعنا اليوم يتقلب بين الحكمة والهاوية، بين طلب المعرفة والتطفل، بين التأمل والانتهاك. فلا يمكن النظر إليه نظرة واحدة، ولا يصح الحكم عليه دون تمييز بين دوافعه ومآلاته. في المجتمعات القديمة، كان الفضول يحمل طابعًا مقدسًا، يدفع الإنسان إلى فك طلاسم الطبيعة وفهم الكون من حوله. المصريون القدماء مثلاً استخدموه في التجريب والتأمل، والإغريق جعلوه أساسًا للفلسفة، وسقراط بنى مشروعه الفكري على السؤال، الذي هو صورة الفضول المنضبط. وفي الحضارة الإسلامية، تحوّل الفضول إلى منهج علمي قائم على الملاحظة والتأمل، لا التطفل والظن، كما نراه في أعمال ابن الهيثم والرازي والخوارزمي.

لكن ما الذي يجعل الفضول، في بعض حالاته، مذمومًا؟ وهل يمكن أن يكون مرضًا اجتماعيًا أو سلوكًا مدمرًا؟ النصوص القرآنية تفتح لنا نافذة لفهم هذا الإشكال؛ فالله تعالى يقول: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ وهي دعوة إلى ضبط النفس، وعدم التورط في الأسئلة التي لا طائل منها أو التي قد تسبب الألم أو الفتنة. والآية الأخرى ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ تعكس موقفًا حاسمًا من الفضول الذي يتعدى حدوده الأخلاقية، ويتسلل إلى الخصوصيات، فيتحول إلى أذى. ولذلك يُفهم من القرآن أن الفضول ليس مذمومًا بذاته، بل يُذم حين ينفلت من ضوابط الحكمة والأدب، ويُمَدح حين يكون بوابة للعلم والمعرفة، كما في قوله: ﴿وقل رب زدني علمًا﴾.

الإمام علي عليه السلام، وهو منارات العقل والنور، لم يغفل هذا المعنى، بل وجه إليه بدقة فائقة. ففي قوله "من أمسك عن الفضول عدّ من أرباب العقول" نرى أن ضبط الفضول لا إلغاؤه هو سبيل الحكمة. وقال أيضًا: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وهذا يربط الفضول بخلق الحياء والتعفف. ومن كلامه يتضح أن الفضول حالة نفسية بحاجة إلى تهذيب، لا إلى قمع. وهو ما يجعلنا نفهم أن الفضول ليس مرضًا ولا شريعة، بل طاقة عقلية وأخلاقية، إن وُجّهت للعلم كانت فضيلة، وإن أُطلقت بلا ضابط كانت رذيلة.

وقد تناول الفلاسفة هذا الأمر بآراء متباينة؛ فأفلاطون رأى أن الفضول طريق الحكمة ولكنه محفوف بالمخاطر، وأرسطو اعتبره بداية الفلسفة، وفرنسيس بيكون قال بأن الفضول هو البوابة الأولى للمعرفة. أما المعاصرون أمثال ألبرتو مانغويل، فقد أعادوا تعريف الفضول كقوة ثقافية تجمع بين الرغبة في الفهم وحتمية الحذر. وهكذا فإن الفضول لا يُعرف بماهو عليه، بل بما يصير إليه. قد يبدأ بسؤال، وينتهي إلى اكتشاف، أو إلى فتنة، وقد يكون له شكل فردي في التأمل، أو اجتماعي في تتبع أخبار الآخرين، وما بين هذين المسارين توجد الحكمة، التي لا تفرط ولا تُفرِّط.

إذا أردنا أن نحاكي مجتمعنا اليوم، فعلينا أن نعيد تعريف الفضول بشكل يعكس طبيعته المتجددة: فضول يُلهِم لا يقتحم، ويسأل لا يتجسس، ويقرأ لا يتسلل. فضول يجعل من الفرد باحثًا لا متطفلًا، ومن المجتمع ساحة للحوار لا مرآة للمراقبة. عندها فقط، يعود الفضول ليكون رأسًا للحكمة، لا ذيلًا للشهوة.

***

بقلم محمد صبي الخالدي - الكوفة

٢٧ / ٧ / ٢٠٢٥

في المثقف اليوم