أقلام حرة
ناجي ظاهر: كُتّاب بالقُوّة

هي ظاهرة قديمة جديدة، برزت في السنوات الأخيرة وأخذت تكبر وتتضخّم حتى باتت أشبه ما نكون بالتدرّن المَرضي، وبات السكوت عليها، أشبه ما يكون بالخيانة الأخلاقية للإبداع وتأثيره المنشود. إنها ظاهرة الاستكتاب، تلك الظاهرة التابعة لدى معظم الوجوه الأدبية الجديدة، اذا لم يكن لديها مُجتمعة، فما أن يُصدر أحدهم عامةً وإحداهن خاصة، كتابًا جديدًا حتى تنهال الكتابات المطلوبة عليه، وكأنما نحن أمام عمل غير عادي ويستوجب التوقّف عنده طويلًا ومديدًا، لكن إذا قيّض لك أن تقرأ هذا الكتاب فإنك غالبا ما تشعر بخيبة أمل، فأين ذلك الكتاب مما كُتب عنه.. بناءً على طلب من صاحبه؟.. وهل هو/الكتاب حقًا يستأهل كلّ ما كتب عنه وأثير حوله؟.. أنك سرعان ما تكتشف أنك إنما كنت ضحية لخديعة بإمكانك أن تُطلق عليها.. وتردفها بكلمة.. مٌكملة هي: خديعة من هذا الزمان.
يقينًا أننا كنّا نصمت عن هذه الظاهرة، وهي قديمة جديدة كما سلف، غير أن ما تُحدثه في الغالب الاعم، وتتركه مِن أثر سلبي على العملية الأدبية الكتابية ذاتها، وعلى القراء بصورة عامة إنما يستوجب التوقّف وإبداء الملاحظة والرأي، كون هذه الظاهرة تعتمد في كينونتها ووجودها على نوعٍ من التدليس حينًا والشللية حينًا آخر، الامر الذي يُدنيها مِن الفوضى، ويُبعدها عن الابداع الادبي المنشود، مهما طغت الفوضى وعمّت، كما هو الامر حاصل هذه الفترة.
هذه الظاهرة لمن يُريد أن يستزيد ويتبحّر فيها أكثر، لها علاقة وطيدة بالتسويق، ونحن لسنا ضد التسويق، لكننا مع عدم المبالغة فيه، مِن حقّ الكاتب.. أي كاتب، أن يقوم بتسويق ونشر ما ينتجه، هذا حقّ لا يمكننا الاعتراض عليه، غير أنه يحقّ لنا أن نعترض على المبالغة فيه، حدّ ان يتحوّل الإصدار إلى مُناسبة ترويجية مفتعلة لصاحبه، بدلًا مِن أن يسلّط الأضواء الكاشفة على العمل ذاته، وهو ما يحمل رسالته في ذاته/ ناهيك عن أنه هو من يُخاطب قراءه، وهو ما يبقى في مواجهة معهم. ونقول باختصار إنه من حقّ الكاتب، كما يقول الروائي الإيطالي المبدع البرتو مورافيا، أن يسوّق عشرة في المائة لكن عليه أو يُطلب منه أن يبدع تسعين بالمائة، أما أن تنقلب الآية، فنرى مَن يكتب ويُبدع بنسبة عشرة في المائة وأن يسوّق في النسبة المتبقية، فهذا ما نرفضه ونعترض عليه، ونكرّس له هذه الكلمات للتحذير منه والتنبيه إلى مخاطِره.
من مخاطر هذا التسويق الجارف، وأكاد أقول المجنون، أنه يترُك آثاره السلبية السيئة على الحياة الأدبية عامة وعلى صاحبه خاصة، أما فيما يتعلّق بالعامّ، فإنه يؤدي بمن يَطّلع عليه وعلى ما كُتب عنه، ويرى إلى الفجوة المموّهة الفاصلة بين الاثنين، إلى نوع من خيبة الامل، فما يقرأه استكتابًا عادة ما يدخل في نوع ما من المُجاملة الزائدة، لما يكتب عنه وحوله، الامر الذي قد يصرف، أو يساهم على الأقل في صرف القارئ عن القراءة، والاستزادة مِنها في حال اقتناعه بما كتب ومقارنته بما كُتب عنه. أما فيما يتعلّق بصاحب العمل، المُستكتِب، فإنه يدخله في الاغلب الاعم، في نوع مِن التضليل الذاتي، ويتجلى ذلك في أنه هو ذاته عادة ما يعرف القيمة المتدنية لما كتبه، أنتجه وأصدره، ومع هذا فإنه عندما يستكتب صديقًا أو مَن هو متأكد مِن أنه أبعد ما يكون عن الابداع الادبي، يُدرك تمام الادراك أنه إنما سيحظى بوجبة مديح وتبجيل في غير مكانها، الامر الذي يُمكّنه من مُناكفة مَن ينتقد كتابه، وتحويله بالتالي إلى ما كتبه فلان أو فلانة عن كتابه.
مثل هذا، ينطبق على تلك الامسيات الاشهارية، التي تقام بحق او يغير حق، فما أن يُصدر أحد الكتاب الجُدد تحديدًا كتابًا، حتى يسعى بكلّ ما لديه مِن علاقات وارتباطات شخصية، للتوسط له مِن أجل عقد أمسية إشهارية، في هذه المؤسسة ذات الاسم أو تلك، وهُنا سنلاحظ، أن مَن سيتحدّثون عن الكتاب محور الاشهار، هُم مِن المضمونين فيما سينهالون به من تبجيل وتمجيد، هكذا تنقلب الأمسية الاشهارية، إلى مناسبة اجتماعية يمتدح المتحدثون فيها، الكتاب موضوع الأمسية، وكثيرًا ما يُعرّجون على وجبة مديح لصاحبه، الذي عادة ما يكون مِن اصدقائهم اللزم، الامر الذي يُضخّم في تنفير المشارك او القارئ من الكِتاب وأهله من ناحية، وفي نفخ صاحبة أو صاحبته، حد أنه يُدخلها في حالة من النشوة، فترفض أي نقد يوجّهه ناقد صادق وغيّور على الحراك الادبي، ويحوله بالتالي إلى ما قيل عنه مُجاملةً واستنطاقا، ليُسكته وليواصل مسيرته المرفوضة وغير المقبولة، من ناجية وليحيط نفسه بجدار من الكبرياء وكلّ ما يُقصيه عن دخول حديقة الابداع الحقيقي والجدير.
إن الابداع الحقيقي أيها الناس لا يحتاج إلى مدّاحين ومُهرّجين، يتمّ استدراجُهم للكتابة بشتى الطرق ومختلف الاغراءات، وإنما هو ينمو، يترعرع ويزدهر في حديقة الابداع الساهرة والساحرة، تلك الحديقة التي يحتاج دخولها والمكوث فيها إلى القراءة والاطلاع والمزيد من هذين، إن الكاتب المبدع الحقيقي عادة ما يُفضَل أن يكون عمله/ كتابه، هو سفيرُه إلى العالم وليس أولئك المُستكتبين مِن الأصدقاء وأعضاء الشلّة.
***
ناجي ظاهر