قضايا
سليم جوهر: ازمة الهوية الوطنية العراقية.. وحدة في الرؤيا واختلاف في المنهج
من المعتاد ان تجد الأبن يسير على خطى والده في تتبع خطى فن معين، ولكن ليس من السهل ان تجدهما مفكرين مجددين منهمكين بهم اقصى واحد لموضوع إشكالي كمبحث (الهوية) وبمنهجين مختلفين. انهما الرفاعي الأب عبد الجبار والابن محمد حسين.
ينطلق المفكر عبد الجبار الرفاعي في كتابه الموسوم (الهوية في شراك الأيديولوجيا) بدون عنوان ثانوي وبعبارات واضحة وأسلوب سهل يتوجه به كما في مقدمته بوصية (ألى الأبناء من الجيل الجديد) بالافتخار بوطنهم العراق. بداية يستعرض عبد الجبار الرفاعي في مقدمة كتابه همه الأقصى الذي دفعه للخوض فيه ومعانته من غياب شكل واضح للهوية الوطنية العراقية.
ففي بيان مفهوم (الهوية) يبدأ عبد الجبار الرفاعي (الفصل 1) بعوان لافت "الهوية في حالة صيرورة وتشكل". ويمكن اعتباره بيان عام لرؤيته التي يسعى اليها على شكل إشارات مكثفة، وبعد ذلك يفصل رؤيته في الفصول الأخرى بأسلوب سلس وتفصيل لهذا التكثيف. فالهوية التي يطرحها هي الهوية (المثالية) بكونها ما ينبغي ان تكون عليه لا بكونها الهوية الواقعية المأزومة. بينما ينطلق الباحث (محمد حسين الرفاعي) من واقع الهوية المجتمعية ليفككها. هذا الاختلاف يكمن لا في طبيعة المنهج فقط ولكن بشكل اعمق يتعلق بوظيفة المثقف لدى كل منهما.
وهنا انطلق من تصنيف الباحث محمد حسين الرفاعي للمثقف في علاقته (بالمعرفة والمجتمع والسلطة) الى ثلاث أصناف (الموسوعي، الغرامشي، واليوتيبي) ويمكن ان اضيف صنف رابع هو المثقف النقدي، لأن التقسيم ليس حصريا بل استقرائيا.
في كتابه (الهوية في شراك الأيديولوجيا) يسعى عبد الجبار الرفاعي كمثقف بوصفه عقل (ألأمة-الملة) ومُعلِمها، الذي يسعى الى بناء (ما يجب ان يكون) بعد بيانه. الى بيان ما يجب ان تكون عليه "الهوية المثالية " الوطنية العراقية في الفصول (1-4)، وينتقد الهوية المغلقة التي تغتال الهوية الوطنية كما يوضحها في الفصول (5-10). فقد شغلته الهوية الوطنية العراقية منذ عودته من المنافي، ولشعوره باضطراب الهوية الوطنية او تلاشيها، وبكونها من اخطر الأزمات التي يكابدها العراق، فقد شعر بالحاجة الماسة الى غرس الهوية الوطنية في الضمير ووجوب تغذية حضورها للأبناء والعبور بهم من مضايق الهويات الجماعاتية (الضيقة)، وهويات ايدولوجية مستعارة الى مسار أعم وأشمل، لذا فهو يرسم معالم هوية وطنية عراقية بكونها ما يجب ان تكون عليه تجسيد لوظيفته الفكرية التوعوية. فهو يدعو الى فهو تأويلي للهوية بوصفها كينونة تنمو في التفاعل لا جوهرا منغلقا على ذاته، يتيح تجاوز النزعات الاقصائية ويفتح أفقا للإنسانية تتسع وتعدد. بشكل عام تمتاز الهوية لدى الرفاعي الأب بكونها:
1. علائقية بطبيعتها أي تتكون من:
- شبكة علاقات متبادلة.
- تُعاد صياغتها.
- ليس لها معنى أبدي ساكن بذاته.
- تكتسب معناها من هويات مقابلة.
2. ديناميكية حية:
- تتفاعل وتنفتح.
- تستقي من غيرها وتسقي غيرها، تأخذ وتعطي.
- يعاد بناؤها على الدوام بالاستيعاب والتمثل والتأويل.
- تتشكل بفعل التفاعل الخلاق مع الآخر، وبتأثر التحولات في البيئة والثقافة والتاريخ.
- الهوية افق مفتوح يعيد تعريف ذاته.
3. الهوية كائن اجتماعي لغوي ديني سياسي ثقافي متحول:
- بنيتها مركبة عميقة متنوعة الوجود.
- تتألف من طبقات متداخلة ومكونات متنوعة.
- تسارع تحول الهوية يعيد تعريف الإنسان.
فالهوية الوطنية التي يدعو لها هي جامعة لا تقبل الإنغلاق على مكون واحد ولا تسمح باحتكار الوطن لجماعة دون سواها. هوية تتسع للمختلف وترى ان العيش المشترك لا ينهض إلا بالاعتراف بالاختلاف في إطار كيان سياسي واحد، وشراكة الجميع في بناء الوطن وحمايته. وتتسم الهوية لدى "المثقف المعلم" الحالم بما يجا ان تكون عليه الهوية الوطنية، بما يلي:
1. انتماء الى رقعة جغرافية ومصير واحد ومصالح يلتقي عليها الجميع.
2. تاريخ مشترك وذاكرة جمعية يتجسد في ثقافة جامعة ورموز مشتركة.
3. سردية تستحضر منعطفات نشأة الوطن وتؤرخ تحولاته وتعيد وصل حاضره بجذوره الممتدة في الزمن.
4. تتجلى الهوية الوطنية في الشخصيات المؤسسة وكل شخصية استثنائية تركت بصمة مضيئة في مسيرة الوطن على المستويات كافة واسهمت في بناء كيانه السياسي والعلمي والثقافي الرمزي والديني والقيمي والاقتصادي والفني والأدبي والرياضي.
5. تنعكس الهوية الوطنية في اللغة والآداب والفنون السمعية والبصرية والأديان والمعتقدات والأمثال والأساطير والعلوم والمعارف المتنوعة، والشعار الرسمي للدولة والنشيد الوطني والمناسبات والأعياد والفلكلور والأماكن الأثرية والمعمارية التي تستفيق فيها الذاكرة وتمنح ما هو جميل في الماضي حضورا مستأنفا.
6. وتظهر الهوية الوطنية في المطبخ وأنواع الأطعمة واللباس والأزياء والأذواق والرياضة بكب أنواعها، وكل ما يسهم في توليد الشعور بالاستمرارية التاريخية ويغذي الإحساس بالارتباط الوجداني العميق بالوطن.
تعيش الهوية لدى "المثقف المعلم" عبد الجبار الرفاعي في عالم تتفاعل وتتصادم فيه هويات متعددة ومتنوعة. وإدراك الهوية بوصفها صيرورة مفتوحة يتيح تجاوز التصورات المغلقة التي ترى فيها جوهرا ثابتا لا يتغير ويفتح المجال لفهم اكثر إنسانية وقبولا للمختلف. فالوعي بالهوية لديه دعوة للتفكير الصبور والتوغل في طباقتها، وتحليل عناصرها وقراءة تحولاتها وما يتعاقب عليها من تمثلات جديدة. واذ يتبع منهجا بنائيا في كتابه كهرم مقلوب. يعطينا فكرة عامة مختصرة وشاملة في البداية ثم يعيد توضيحها وبيان تفرعاتها واشكالاتها والعوائق التي تعترض رؤيته لبناء هوية وطنية (بما يجب ان تكون عليه)، فهو بهذا يتوجه بها لكل شرائح المجتمع من المختص سياسيا الى المثقف المنهم بالهوية الوطنية الى القارئ الحيصف الى المواطن البسيط، ينطلق بذلك من وظيفته بكونه (مثقفا معلما) والتي قضى جل حياته النضالية والفكرية في سبيل تحقيقها. وهو لا يذهب الى الأزمة بما هي ازمة ليفككها، بل ليتجاوزها الى بناء ما يجب ان تكون عليه. وهنا يأتي دور الرفاعي الأبن.
الدور الذي لم يذكره (الباحث محمد حسين الرفاعي) دور "المثقف النقدي" في كتابه الموسوم (أزمة الهوية والأخلاق في الفعل المجتمعي الجديد) وبعنوان ثانوي (دراسة في الأتيقيا المجتمعية). من العنوان الى متن الكتاب ترى الاختلاف الواضح في المنهج والرؤية في تناول مفهوم "الهوية الوطنية العراقية". فهو ينطلق من لحظة تعتبر مفصلية في بيان ازمة الهوية الوطنية الا وهي "لحظة تشرين" بكونها حركة مجتمعية وضعت المثقف العراقي "منكشفا" امام تفجر لأزمة مجتمعية. هذا الانكشاف للمثقف في وظيفته الواقعية وضعته امام مسارين كلاهما يعمق ازمة الهوية؛ فإما مثقف في خدمة الجماعة "الهووية"، او مثقف في خدمة نفسه. انه إنكشاف مرعب ذلك الذي يجعلنا امام ازمة عميقة للهوية لا يمكن تجاوزها بسهولة. حيث السقوط المجتمعي الكلي ضمن الجماعات "الهووية" التي تقوم على هوية مغلقة. أي ان المثقف في مسارات تعميق ازمة الهوية اصبح عقبة في بناء المجتمع. فالباحث (محمد حسين الرفاعي) يتناول الهوية بواسطتها كمدخل لفعل أخلاقي مجتمعي. أي لا يمكن بناء هوية وطنية دون فعل أخلاقي يسهم في بناء المجتمع.
من هنا ينطلق لتفكيك "وظيفة المثقف" بكل العنوانين الفاعلة في المشهد والتي لا تساعد على حلحلة الأزمة المجتمعية. ولكي يفعل ذلك يفكك المعرفة التي تؤسس لطبيعة الفعل الأخلاقي القائم على الفكر الى اخلاق مجتمعية (ايدولوجية\ واقعية، يوتيبية\ رسولية، واخلاق دستوبيا\ الهدم) وتصبح كل هذه المعارف فائضة عن اللزوم عندما تفقد وظيفتها التي وجدت من جلها. فالمجتمعية الأيدولوجية عندما تفقد موقعها وقوتها المجتمعية تصبح فائضة عن اللزوم، والمجتمعية اليوتوبية عندما تفقد معناها وقوتها وإمكان بناء مجتمع بواسطتها عند مستوى الفرد والمجتمع تصبح فائضة عن اللزوم، والمجتمعية الديستوبية عندما ينكشف زيفها وقدرتها التدميرية تصبح فائضة عن اللزوم انها (عقبة السلطة امام المجتمع).
وهنا يتجذر الإشكال المعرفي الأهم الذي يسعى الباحث محمد حسين الرفاعي للكشف عنه، أي الكشف عن (المصدر المعرفي الذي به تفقد المفاهيم علميتها النظرية وجدواها العملية في اللحظة التي تتحول الى مرجعيات قبلية يتوقف الفهم عندها). فالبحث هنا يتتبع الأصل المعرفي "ابستمولوجيا" في كشف "التابع" الذي ينقل معرفة قبلية (حداثية او تقليدية)، ولا ينتجها. فالتابع عندما ينقل معرفة هي بالذات لواقع هو غير واقعه الذي يعيش، لأنه لا يتلفت الى المكونات الأساسية لفهم واقعه. فالمثقف في بحث دائم عن مبررات لموقف فكري اصبح "فائضا عن اللزوم" على الصعيد المجتمعي بمستوياته الثلاث المذكورة سابقا، فنجد غياب للموضوع الواقعي والمنهج الذي يحتاج، فيتم استدعاء القبليات المرجعية لتبرير الأزمة المجتمعية لا في البحث عن الحل. ولا حل الا عندما يكون الواقع موضوعا للفهم وان نعيه بكونه احداث تحصل في الواقع مؤطرة ب(الزمان والمكان)’ فهو يحلل بعمق هذا المأزق المعرفي بعين الباحث الحصيف بدقة وصبر كبيرين، ليشخص لنا ان الأزمة المعرفية تكمن "بأدلجة الفهم" الذي يفضي الى (حماية المؤسسة المجتمعية وكذلك الحفاظ على ايدولوجيا السلطة). فنحن هنا امام ثالوث "هووي" خطير يتكون من (حراس الفهم، ومؤسسة مجتمعية، وهوية). وهذا الثالوث هو الذي يحدد في كل مرة طبيعة المعرفة التي يجب ان تكون سائدة. وهذه المعرفة بطبعتها احتفائية هوياتية بالغالب، نحتفي بذات انفسنا الضاربة في جذر التاريخ المجتمعي، قائمة على تصورات سابقة تعيد تحديد علاقتنا بأنفسنا والعالم من حولنا.
هذا الاحتفاء "بالهوية" بقدر ما يمجدها فهو يحجب العالم، أي ان هنالك علاقة عكسية بين (الاحتفاء بالهوية المجتمعية الملية)، والانفتاح على العالم، لأنها بدء التحديد النهائي للذات الفاعلة، لانها بذلك تعمل على تسكين الذات وتعطيل الفعل. فالتساؤل الجذري لبنية الهوية ووظيفتها لا بد ان يضعنا مباشرة امام إمكانيات تجاوز عقبات الماضي ولأن نكون منفتحين على العالم. فبناءا على ذلك "لابد من تفكيك البنية المعرفية، وتفكيك الوظيفة" لانغلاق الهوية معرفيا.
اول خطوة في ذلك هو الفهم الواقعي، وان ندرك ان العالم الذي نعيش غير العالم الذي نعرف. فانغلاق الهوية يجعل الهوة عميقة بيننا بين العالم من حولنا. لكن شئنا ام أبينا فالعالم يأتي الينا عبر الفضاء فغدا المواطن عالميا بقدر ما هو محلي، حيث يتداخل المحلي بالعالمي في معظم مجالات الحياة، اقتصادية، ثقافية، ميديا، سياسية...الخ. فهنالك هوية عالمية منفتحة وفاعلة لا يمكن تجاهلها، بل تجد صداها في "الدولة" بكونها بينة عابرة للهويات الملية المنغلقة ومتفاعلة مع الآخر على الصعيد "الوطني" في نظام يفترض انه ديموقراطي.
في هذا المفصل يقترب الباحث النقدي "محمد حسين الرفاعي" الأبن مع الأب المفكر المثقف المعلم (عبد الجبار الرفاعي). فيقترح ان الدولة بوصفها تجسيدا لهوية عالمية لابد ان تتسم بأربع سمات:
1. الوطنية، وفكرة المواطنة. أي القبول بالتعدد والمختلف والتنوع بين الجماعات المحلية.
2. وان يتم وضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
3. وان يتم اتباع سياسات اقتصادية تتعلق بالتنمية، والقضاء على الفساد، والحفاظ على قيمة العملة الوطنية.
4. علاقات خارجية مع دول الجوار من جهة والقوى العالمية من جهة أخرى، ـاخذ بمصلحة البلد كقيمة عليا.
فرغم الاختلاف المنهجي بين المفكر المعلم والباحث النقدي في تناولها لأزمة الهوية الوطنية ونقدمهما الشديد لانغلاق الهوية المحلية، فهما يشتركان بهم اقصى اسمه (العراق) وطنا تكون فيه الجماعات متجذرة الانتماء الى هويتها الوطنية مع ضرورة الانفتاح والتفاعل مع الآخر.
***
د. سليم جوهر






