قضايا
حاتم حميد محسن: الحوافز السايكولوجية للسلطوية والاستبداد
العديد من الناس قلقون من تصاعد الاستبداد Authoritarianism والاوتوقراطية Autocracyعلى مستوى العالم. هذه الهياكل السياسية تخلق مناخا من الخوف وعدم اليقين والتوتر. الأنظمة السلطوية يمكنها بسرعة ان تفككك البرامج المفيدة للشعوب والبيئات، تاركة المواطنين في حالة من العجز واكثر عرضة للتدهور البيئي. ان فهم سايكولوجية الاستبداد تساعد في خلق الوضوح الذهني المطلوب للمقاومة وتعزيز الرفاهية وتصوّر وبناء مستقبل مستديم.
القلق من اللايقين
عندما يتكلم البعض عن "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، ذلك يشير الى وعد بالشعور بالعظمة ثانية – إعادة ترميم الهوية، والأمن والمكانة في عالم سريع التغيير. بالنسبة لأولئك الذين تُركوا في الخلف بفعل التحولات الاقتصادية والثقافية، تأتي هذه الرسالة لأنها تستغل الحاجة العاطفية العالمية للاحترام واليقين والانتماء. غير ان تلك الراحة تأتي معها تكاليف. هذا الوعد باليقين الذي يستخدم التنمر والقوة يمكنه ان يهمش أي شخص، انه لا يحترم الخبرة من جميع الأنواع ويشوه الحقائق ويلهب الاستقطاب. المتنمر الذي يعكس الديناميكية الاجتماعية لساحة المدرسة، هو وحلقته المقّربة يطلبون الولاء، بينما المارة يبقون صامتين لتجنب ان يصبحوا هدفا. الأتباع ربما يشعرون بالحماية لكنهم أيضا يعيشون في خوف من الطرد.
علماء النفس يسمون هذه الحالة "تعلّق مصحوب بقلق شديد" – يقظة مستمرة للحفاظ على الارتباط بشخص قوي لا يمكن التنبؤ به. انهم ليسوا فقط اشخاص خارجيين يدفعون الثمن، وانما كل منْ يقع في دائرة الخوف والامتثال وضياع الأصالة. كل من يقع في هذه الديناميكية يبدأ يرى العالم بعبارات صارخة من الأبيض والأسود يُنظر من خلالها لأولئك الذين يفكرون بطريقة مختلفة باعتبارهم خطرين. هذا التقسيم السايكولوجي يخدم برامج السلطوية بشكل جيد: حالما يُنظر للجانب الاخر ليس فقط كظالم وانما شرير، عندئذ حتى الأفعال المتطرفة ضده يمكن عقلنتها.
كلفة الصحة الذهنية
العيش في ظل توتر سياسي دائم يأخذ مقدارا عميقا من الصحة الذهنية. في المجتمعات السلطوية، الافراد يجب ان يفحصوا ويراجعوا موقفهم باستمرار، يخلقون حالة من التوتر الدائم. يصبح من الصعب التنبؤ بالحياة، يتم التحكم بها ليس بمبادئ متفق عليها ديمقراطيا وانما عبر الأهواء المتغيرة لقائد قوي. العديد من المرضى وأعضاء الجالية يصفون الشعور كما لو انهم انزلقوا الى علاقات "وضع يسبب الجنون" – حيث الواقع ذاته يبدو غير مستقر ومشوه. السلطوية تستغل الميول السايكولوجية الراسخة عميقا في الانسان. في تجارب ستانلي ميلجرام Stanley Milgram، المشاركون كانوا يرغبون بإدارة ما اعتقدوا انه صدمات كهربائية مؤذية للآخرين فقط بسبب ان شخصية سلطوية أمرتهم للقيام بهذا (ميلجرام،1963). عمل ميلجرام يكشف عدم مقاومة طاعة السلطة حتى عندما تنتهك قيم المرء الخاصة. السايكولوجي روبرت التمير(1996) وجد انه في ظروف تأثير الاستبداد، الافراد عادة يتنازلون عن تفكير معقد ومستقل. بدلا من ذلك، هم يتبنون أحكام الأبيض والأسود، يستبدلون التمييز الشخصي بعواطف جمعية. حين تصبح تابعا في مثل هذا النظام تستبدل عبء المسؤولية الشخصية بوهم راحة اليقين، والأمان المتخيل والتفوق.
احدى اهم التكتيكات الضارة في أدوات الاستبداد هي التلاعب النفسي. هذا الاستغلال النفسي يجعل الناس في حالة معتمدة من رد الفعل، يفقدون السيطرة على قيمهم الشخصية، وغير قادرين على الثقة بتصوراتهم او غرائزهم، وغير مكترثين حول ما تكون عليه الحقيقة.
سايكولوجية القيادة الاوتوقراطية
اذا كانت السلطوية توجد في مستوى منهجي، فان القيادة الاوتوقراطية عادة ما تتجلى اكثر قوة في المستوى الشخصي، تصوغ الحياة النفسية للمواطنين. القائد الاوتوقراطي يحتفظ بسيطرة مطلقة، يحدد المشاركة ويفرض الولاء من خلال الخوف وعدم إمكانية التنبؤ والاعتمادية. المواطنون يصبحون محاصرين بغيبوبة نفسية: يقاومون ويخاطرون بالعقوبة او يمتثلون ويستسلمون لشخصية معينة. وبمرور الزمن، هذا يؤدي الى خدر عاطفي، وانفكاك أخلاقي، وضياع الأصالة الذاتية. حتى المؤيدون للنظام يتأثرون، لأن الضغط المستمر للإمتثال لرؤية القائد يحول دون الأمان السايكولوجي الحقيقي.
غرس الديمقراطية من الأسفل
يمكن مقارنة السلطوية بالتدهور النباتي. انها تنزع من التربة الحيوية، تستبدل التنوع بزراعة أحادية، والتعقيدية بالامتثال، والاستدامة الطويلة الأمد بالهيمنة قصيرة الاجل. تحت سطح القوة الظاهرة يكمن استنزاف للناس والمؤسسات، والقوة والتربة الأخلاقية التي تعتمد عليها الديمقراطية. مع ذلك، فهم الإغراء النفسي للاوتوقراطية يساعد المواطنين في مقاومة جذبها وبناء خيارات هادفة – فضاءات حيث تتم تلبية حاجة الانسان الحقيقية للمعنى والارتباط والأمن بدون التضحية بالفكر المستقل.
الاستجابة للاستبداد تتطلب عملا في أنظمة الحكومة القائمة وكذلك في المعارضة السلمية للمظاهر المدمرة لتلك الأنظمة. المناخ الاجتماعي والمدني هو التربة الصحية لمثل هذه الاستجابات. حتى في البيئات الاستقطابية او السلطوية، هناك ميادين يتم السعي ضمنها للحريات الفردية (القدرة على التفكير والتحدث والتصرف طبقا لقيم الفرد) ويتم الحفاظ على جاليات داعمة، هذه الميادين:
1- جماعات مدنية تعالج التحديات المحلية بدءا من تحسين الصحة العامة الى تطوير استدامة بيئية.
2- جماعات مرتكزة على الايمان تعبّر عن عواطفها من خلال رعاية الناس والاشراف على الكوكب.
3- منظمات طوعية تبني جسورا عبر زراعة الأشجار وتنظيف الممرات المائية والاستجابة لحاجات الناس.
4- رعاية متبادلة تجسد نموذج العائلات.
ضمن هذه الانشغالات، يؤدي صمود الفرد والجالية الى غرس أنظمة سياسية ديمقراطية وطرق صحية لخلق عواطف وعقل متوازن، واحتضان التعقيدية بدلا من السقوط في تفكير ثنائي، والعثور على قوة في المرونة بدلا من الصلابة.
هذه القيم تقف في تضاد مباشر مع حاجات السلطوية الى كبش فداء، تفكير مبسط "ابيض واسود"، والانشغال مع قائد لا يمكن التنبؤ به. على المستوى الشخصي، المقاومة تتطلب الصدق حول القيم الشخصية والشجاعة والجالية. هناك أربعة طرق تطبيقية للتعامل والمقاومة:
1- التركيز على المعنى: تتحدث عن الحقائق بوضوح، تقف بثبات حول ما هو صحيح، وغرس قيم الجالية من خلال علاقات مهنية وشخصية بالإضافة الى انشغال مدني.
2- التعامل من خلال التركيز على العواطف: تبنّي رعاية الصحة الذهنية للمرء بعناية ذاتية وشبكات دعم موثوقة.
3- التركيز على المشكلة: الرد بأفعال استجواب صغيرة ودفاع، اعتمادا على مخاطرة المرء، وحماية الخصوصية الرقمية باستعمال أدوات آمنة مثل الرسائل المشفرة وشبكات VPNs(مصادر مثل المرشد المضاد للاوتوقراطية يقدم ارشادا حول تقييم المخاطرة الشخصية في ظروف استبدادية وتفصيل أفعال طبقا لذلك).
4.- تفكير مستقبلي: ان تعرف هناك العديد من أشكال المستقبل المحتمل وتكون راغبا بالتفكير فيها والتخطيط لها. عبر غرس هذه العادات، نحن لا نحمي فقط رفاهيتنا وانما أيضا نساعد الديمقراطية والجالية وازدهار الكوكب حتى في أصعب الظروف.
***
حاتم حميد محسن
........................
The psychological pull of Authoritarianism and Autocracy, psychology today,Sep 25,2025
المصادر:
1- التماير Altemeyer،B(1996). شبح السلطوية. مطبوعات جامعة هارفرد.
2- Lipman-Blumen., J،(2005). جاذبية القادة السامّين: لماذا نتّبع زعماء مدمرين وسياسيين فاسدين، وكيف يمكننا النجاة منهم، مطبوعات جامعة أكسفورد.
3- ميليجرام Milgram,S(1963). دراسة سلوكية للطاعة. مجلة علم النفس الاجتماعي وغير الطبيعي،67 (4)،ص371-378.






