أقلام حرة

رافد القاضي: رحلة الانسان في مرآة الحياة بين دمعة الفجر وابتسامة الغروب

الإنسان، تلك الكائنات الصغيرة التي تحمل في صدرها عالماً كاملاً، تعيش على هامش اللحظة، تتأرجح بين خيوط النور وظلال الألم، بين همسات الأمل وصراخ الفقدان. وهو ذلك المسافر الأبدي في صحراء الحياة يحمل حقيبة مليئة بالذكريات، بعضها ثقيل وبعضها يذوب كندى الصباح على أوراق الخريف.

فالحياة ليست مجرد أيام تمر، ولا مجرد ساعات تتراكم على ساعة الزمن وإنها محيط من الأحلام التي نغرق أحيانًا فيها ومن الأوهام التي نحملها كما نحمل زجاجًا هشًا، خائفين من أن ينكسر في أصابعنا. وكل لحظة تمر، كل نبضة قلب، تحمل معها سؤالًا جديدًا : لماذا نعيش؟ ولماذا نحب؟ ولماذا نرحل؟

في أعماق الإنسان، هناك حكايات لم تروَ وجرح لم يلتئم، وابتسامة اختارت أن تختبئ خلف ستار من الصمت فالشعر، هو اللغة التي تحاول الإمساك بالزمن، وهي اليد التي تمتد لتحنو على قلبٍ منهكٍ من سيل الحياة والقلم، هو السلاح الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يقاتل به وحدته، أن ينسج من الكلمات جسورًا إلى أرواح الآخرين، أن يزرع في الحروف بذور الأمل حينما يذبل الزهر من حوله.

فالإنسان أيضًا شاعرٌ، حتى حين يجهل ذلك. في صمت الليل، حين تنطفئ الأضواء يكتشف الإنسان أن قلبه ينبض كما لو أنه فرس مقيد في ساحة الحرية، يركض بين الحلم والواقع، بين الحب والخوف، بين الفرح والحزن وكلما اقترب من الحقيقة أدرك أن الحقيقة ليست مطلقة، بل هي لوحة مُرَسَّمة بريشة عاطفته، لونها أزرق كالسماء أو رمادي كالرماد، أحيانًا حارقة كالنهار الصيفي، وأحيانًا باردة كنسيم الشتاء العميق.

وفي هذا العالم، تتجلى العاطفة في أبسط الأشياء: في ابتسامة طفل يلهو بين الطين في دمعة أم تتلمس وجه ابنها، في يد صديق تمسك يدك حين يهتز العالم من حولك والعاطفة هي اللغة التي لا تحتاج إلى ترجمة، هي الجسر بين الأرواح، والملاذ الأخير لكل من فقد البوصلة في متاهات الحياة.

لكن الإنسان أيضًا معرض للخطأ، معرض للخيبة، معرض لأن يرى العالم من خلال عيونٍ لم تعد ترى سوى الظلال وفي تلك اللحظات، يحتاج إلى الشعر كما يحتاج العطشان إلى الماء، يحتاج إلى الفن كما يحتاج الجريح إلى ضماد يلتئم به قلبه. والفن لا يغير العالم، لكنه يمنح الإنسان القدرة على حمله، ويعلّمه كيف يتحوّل الألم إلى نور، وكيف يمكن للدموع أن تغسل الروح قبل أن تغسل الوجه.

وإن الرحلة الإنسانية ليست سوى رحلة نحو الذات، نحو اكتشاف معنى الوجود، نحو محاولة الإمساك بالحظات التي تمر بسرعة الضوء. وفي كل لحظة، هناك فرصة للقاء مع النفس، فرصة للإبحار في أعماق الوعي فرصة لإعادة صياغة الحياة، فرصة لتعلم الحب بلا شروط، والرحمة بلا حدود.

وفي النهاية، يظل الإنسان كاتبًا في دفتر الكون الكبير، كل خطوة يخطوها، كل كلمة ينطق بها، كل صمت يحتضنه، هو جزء من قصيدة الحياة التي لا تنتهي وكلنا نبحث عن القلم الذي يمكننا من التعبير عن صراعاتنا وأحلامنا، عن النور الذي يهدينا في ليالينا الطويلة، عن الأمل الذي يذكرنا أننا، مهما تعثرت أقدامنا، سننهض دائمًا لنكتب يومًا آخر، صفحة أخرى، قصة أخرى… قصة الإنسان الذي يعيش، يحب يتألم، ويستمر في رحلته رغم كل شيء.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

في المثقف اليوم