أقلام حرة

نهاد الحديثي: قراءة في تشكّل الذات

تساؤلات تطرح.. هل الإنسان هو النسخة نفسها منذ ولادته حتى مماته، أم أنه يتعدد ويتحوّل عبر الزمن؟

يقول العلماء من الناحية البيولوجية، يولد الإنسان بهوية جينية شبه ثابتة، تشكل الإطار العام لخصائصه الجسدية وبعض استعداداته النفسية. غير أن هذه الثباتية لا تعني أن الإنسان يظل «نسخة واحدة» بالمعنى الوجودي أو السلوكي. فالهوية الإنسانية ليست مجرد معطى فطري، بل هي بناء تراكمي يتشكل عبر الخبرة والتفاعل مع العالم المحيط، فيما تشير الدراسات النفسية إلى أن الإنسان يمر بمراحل تطورية متعاقبة، تتبدل فيها نظرته إلى ذاته وإلى الآخرين. فقد بيَّن عالم النفس التطوري إريك إريكسون أن الهوية تمر بأزمات وتحولات في كل مرحلة عمرية، من الطفولة إلى الشيخوخة، وأن كل مرحلة تفرز «نسخة» مختلفة من الإنسان، وإن كانت متصلة بما قبلها. فالإنسان ليس كائنًا منقطعًا عن ماضيه، لكنه أيضًا ليس أسيرًا له، ويؤكد علماء المنظور الاجتماعي والثقافي، فإن الإنسان يتعدد بتعدد الأدوار التي يؤديها: فهو فرد داخل أسرته، وشخص مختلف في محيط العمل، ونسخة أخرى في الفضاء العام أو في العالم الرقمي. هذا التعدد لا يعني النفاق أو الازدواجية بالضرورة، بل يعكس قدرة الإنسان على التكيُّف مع السياقات وتتضاعف أسباب هذا التعدد مع تراكم التجارب الحياتية؛ فالصدمات، والنجاحات، والخسارات، والتعليم، والسفر، والاحتكاك بثقافات أخرى، كلها عوامل تعيد تشكيل الإنسان من الداخل. أحيانًا يشعر الفرد أنه «لم يعد الشخص نفسه» بعد تجربة معينة، وهذا الشعور ليس وهمًا، بل تعبير عن تحول حقيقي في منظومة القيم والتصورات

يقال إن الفلسفة هي ابنة زمانها، وإنها المرآة التي تعكس قلق الإنسان وأسئلته الكبرى في كل عصر، فإذا كان القرن الـ20 قرن الأيديولوجيات الكبرى والتنوع الهائل للتيارات الفلسفية المتشابكة مع علوم أخرى قد تميز باستمرار الاهتمام بالقضايا الكلاسيكية كالأنطولوجيا والإيتيقا والإبيستمولوجيا والسياسة والهوية مع ظهور أسئلة جديدة تشكلت بفعل التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية والسياسية والحداثة المتأخرة والشك في العقل واللغة واللسانيات والتحليل النفسي والأيديولوجيات ونهاية التاريخ والإنسان والمؤلف، فإن القرن الـ21 هو قرن التحولات السريعة، العلمية والرقمية والبيئية والسياسية والدينية، التي أعادت طرح السؤال الفلسفي في سياقات غير مسبوقة، علماً أن التفكير الفلسفي في هذا القرن ليس مقطوع الصلة بفلسفات القرون السابقة، بل إن بعض التيارات الفلسفية تعد امتداداً وتطويراً للأفكار الأساسية التي سادت في القرن الـ20 كأعمال جاك دريدا وجان فرنسوا ليوتار في مجال اللسانيات، وجوليا كريستيفا في فقه اللغة، وجان بودريار ورولان بارت في السيميائيات، وجيل دولوز وجاك رانسيير في الجانب الجمالي، وميشيل فوكو في الفلسفة الاجتماعية، وسيمون دو بوفوار وجان بول سارتر في الفكر الوجودي، وكلود ليفي ستروس في الأنثروبولوجيا، وفليكس غاتاري ولوس إريغاراي في التحليل النفسي... إلخ، وأن تأثير مناهج الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية والوجودية والفينومينولوجيا والهيرمينوطيقا ما زال فاعلاً في فكر جان-لوك ماريون وميشال سير وغيرهما،

وهنا يمكن القول إن الإنسان ليس نسخة واحدة جامدة، ولا نسخًا منفصلة، بل هو كيان متحول ذو جوهر مستمر، تعاملنا مع الناس، فهو بالغ الأهمية. فإذا أدركنا أن الإنسان قابل للتغير، وأن ما نراه منه اليوم ليس بالضرورة صورته النهائية، فسنتعامل مع الآخرين بقدر أكبر من التفهم، والتسامح، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام. كما يدعونا هذا الفهم إلى إعطاء الناس فرصة للنمو والتصحيح، وألا نختزلهم في ماضيهم أو في أسوأ لحظاتهم.

وتعتبر الذات مصدر الفهم العميق للنفس، فهي تشمل المعتقدات والقيم والمشاعر والتجارِب التي تحدد هوية الشخص وطريقة تفاعله مع العالم من حوله، كما يمكن أن تتأثر الذات بالعوامل المختلفة مثل الثقافة، والتعليم، والتجارب الشخصية، مما يجعلها متطورة ومتغيرة على مر الزمن.

***

نهاد الحديثي

في المثقف اليوم