أقلام حرة

رافد القاضي: بين الحلم والواقع.. تأملات في أفق الروح الإنسانية

في هذا العالم الذي تتداخل فيه الظلال بالضوء، وتتقاطع فيه الأسئلة الوجودية مع صمت الأيام العابرة، نقف نحن—الكائنات التي تحمل قلبًا يخفق بضعفه وقوته—لنكتشف أنّ الحياة ليست طريقًا مفروشًا بالفهم، ولا رحلة مزينة بالإجابات إنها لغز أبدي، نقترب منه كلما ابتعدنا، ونفهمه كلما اعترفنا بجهلنا، ونتذوقه كلما سمحنا لروحنا أن تنفتح على اتساع الوجود.

إنّ الإنسان، بضعفه الظاهر وقوته الخفيّة، هو المشروع الوحيد الذي لم يكتمل يومًا ولن يكتمل فنحن لسنا مجرد خطوات تمشي فوق ترابٍ بارد، بل نحن أرواح تبحث عن معنى بين دخان المعاناة وبهاء الفرح ونحن أحلام تحاول أن تُترجم نفسها إلى واقع، وواقع يحاول أن يصير حلمًا، وأمنيات تُلقى على مسرح الحياة لعلها تجد لحظة إصغاء.

الروح.. هذا العالم الذي لا نراه، لكنه يرانا

حين ننظر إلى الإنسان نظرةً تتجاوز جسده وحدوده وماضيه، نكتشف أن جوهره ليس في اسمه أو عمره أو مهنته، بل في ذلك الصوت الهادئ الذي يسكن أعماقه في تلك الارتجافة التي لا يعرف سببها حين يرى شيئًا جميلًا، في تلك الدموع التي لا تفسير لها، في صراعه الدائم بين ما يريده وما يخافه، بين ما يشعر به وما يتظاهر بأنه لا يشعر.

الروح الإنسانية ليست مجرد كتلة من المشاعر إنها كائنٌ يتنفس، ينمو، يثور، يهدأ يتسع، يضيق، يموت ويُبعث مرات لا تُعد وكل تجربة مهما كانت صغيرة، تترك فيها خطًا، وكل ألم يفتح بابًا نحو فهم أعمق، وكل فرح يوقظ فيها طاقة كانت نائمة تحت رماد القلق.

بين الماضي والحاضر.. رحلة لا تهدأ

الماضي ليس خلفنا كما نظن إنه في كل خطوة نخطوها في كل كلمة ننطقها، في كل قرار نتخذه. إنه أرواح من نحن، وظلال من كنا وأسباب من سنكون.

كل ذكرى هي نبضة زمن ما زالت حيّة في داخلنا

ولحظة فرح تشبه شمسًا صغيرة تنام في القلب

ولحظة ألم تشبه حجرًا ثقيلًا نحمله ولا نعرف كيف نضعه جانبًا ولحظة حب نادرة نعود إليها كلما احترقت الروح ولحظة فقدٍ لا يغادرنا مهما ابتعد الزمن وتغيرت الوجوه.

من هنا نفهم أن الإنسان ليس عمرًا بيولوجيًا، بل هو تجارب متراكمة، ومحطات من نور وظلام، وخطوط طويلة من الأسئلة التي لم تجد جوابًا بعد.

الكتابة.. محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الزمن

حين يكتب الإنسان، فهو لا يوثق فقط، ولا يحاول فقط أن يجمّل واقعه أو أن يهرب منه. الكتابة شكل من أشكال العناق..

عناق بين الكاتب وزمنه وبين حزنه وذاته، وبين روحه والفراغ الذي يحاصره.

الكاتب يحاول أن يسرق لحظة من يد العابر، أن يحميها من الضياع، أن يعطيها شكلًا وكثافة ومعنى

يحاول أن يقول للزمن:

"مهلًا.. لن تمر من هنا دون أن أقبض عليك."

وكل حرف هو نبض، وكل عبارة هي محاولة لرصف ذلك الطريق الداخلي الذي تتعثر فيه الروح، لعلها تتعلم المشي من جديد.

الشعر.. الموسيقى التي تعزفها الروح حين تختنق الكلمات

الشعر ليس ترفًا لغويًا، ولا زخرفة بديعية.. إنه مرآة الروح حين تكون بلا مرآة. وهو اللغة التي نكتب بها خوفنا وضعفنا، حبنا وحنيننا، دهشتنا وإيماننا باللحظة.

في الشعر نواجه أنفسنا بجرأة، نخلع عنها الأقنعة نضعها في ضوء الحقيقة ونقول لها:

"ها أنتِ.. بلا تجميل ولا ادّعاء."

والشعر هو الجسر بين عقل يريد أن يفهم، وقلب يريد أن يشعر، وبين حلم يريد أن يطير، وواقع يريد أن يرسينا على الأرض.

الصمت.. النافذة التي نرى منها الحقيقة

في عالم يشبه سوقًا كبيرًا صاخبًا، يصبح الصمت بحد ذاته ثورة.

فالصمت ليس غياب كلام، بل حضور وعي وليس خواء، بل امتلاء وليس توقفًا عن الحديث، بل بداية للاستماع لما هو أعمق من الصوت:

لنبض الروح، لصرخة القلب لوجع كان محبوسًا، لأمل كان يتيمًا.

في الصمت نرى ما يغيب عنا حين نتحدث كثيرًا:

نرى خوفنا، رغباتنا، أحلامنا ضعفنا، قوتنا، ذلك الكائن الحقيقي الذي يختبئ خلف ضجيج الحياة.

الإنسانية.. القدرة على أن نتجدد رغم الانكسار

الإنسانية ليست فكرة فلسفية ولا تعريفًا ثقافيًا إنها القدرة على أن نحب رغم الجراح، وأن نعطي رغم التعب، وأن ننهض رغم السقوط، وأن نبتسم رغم الألم، وأن نؤمن بأن الغد مهما بدا بعيدًا، يحمل معه بذرة ضوء جديدة.

فكل جرح هو نافذة، وكل خسارة هي درس، وكل انكسار هو بداية بناء جديد ذلك أن الإنسان لا يقاس بعدد مرات سقوطه، بل بعدد المرات التي قرر فيها ألّا يبقى ساقطًا.

الحياة.. موسيقى صامتة لا يسمعها إلا من منح قلبه أذنًا

الحياة ليست أيامًا متشابهة ولا مسارًا مستقيمًا، ولا خطًا واحدًا.

إنها لوحة كبيرة ترسمها التجارب والأحلام والمصادفات، ويشارك فيها الزمن والناس والذكريات والمفاجآت، وتتبدل ألوانها كلما تغيرنا نحن.

قد تكون الحياة صعبة نعم..

لكنها أيضًا مدهشة.

قاسية.. لكنها معلمة.

غامضة.. لكنها حقيقية.

تعاقب.. لكنها تمنح.

تأخذ.. لكنها تعيد إلينا بطريقة أخرى ما لا نتوقعه.

ووسط هذا كله، يبقى الإنسان يبحث عن الجمال في الأشياء الصغيرة قبل الكبيرة :

في نظرة صادقة، في خطوة أولى، في كلمة تُقال بحب في لحظة هدوء، في يد تربّت على كتفه، في طفل يضحك، في غيمة تمر، في زهرة تتفتح، في قلب يقترب.

وفي االختام نكتشف أننا لسنا أبناء الحزن وحده، ولا أبناء الفرح وحده، بل أبناء هذه الرحلة المركّبة التي تصنع منا ما نحن عليه.

وأن كل لحظة—حتى تلك التي حسبناها بسيطة أو بلا قيمة—كانت جزءًا من الحكاية الكبرى التي تُكتب في داخلنا دون توقف

حكاية الإنسان الذي يتألم.. لكنه يستمر

يسقط.. لكنه ينهض

يخاف.. لكنه يحلم

يضيع.. لكنه يبحث

ويتعب.. لكنه يخلق من تعبه معنى جديدًا للحياة.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

في المثقف اليوم