أقلام حرة
حميد علي القحطاني: حين يصير المكان هوية.. أستراليا بين الأرض والإنسان
للمكان فلسفة خفية تتجاوز كونه مساحة نتحرك داخلها أو إطاراً مادياً يحيط بنا، فالمكان ليس فراغاً محايداً، بل كائن حيّ في الوعي الإنساني، يشارك في صياغة ذاكرتنا وهويتنا بقدر ما نشارك نحن في تشكيله. في هذا الأفق، تلتقي الرؤى الفلسفية والأنثروبولوجية لتؤكد أن علاقتنا بالأمكنة ليست علاقة إقامة عابرة، بل انتماء عميق. فالإنسان، كما يرى الفيلسوف هايدغر، لا يوجد إلا بقدر ما "يسكن"، والسكن ليس جدراناً وسقوفاً، بل فعل رعاية واهتمام يحوّل الحيز إلى وطن. ويذهب باشلار إلى أن البيت ليس مأوى للجسد فقط، بل مستودع للأحلام والذكريات، وملاذ يحمي خيالنا ويمنحنا الطمأنينة النفسية. هكذا تتجلى العلاقة التبادلية بين الإنسان والمكان: نحن نصنع الأمكنة بوعينا وثقافتنا، وهي في المقابل تعيد تشكيلنا بصمتها العميقة، في تفاعل لا ينقطع. ومن هذا التلاحم يمكن قراءة حكاية أستراليا بوصفها قصة أرض وهوية تشكلتا معاً عبر الزمن.
فالهوية الأسترالية ليست نتاج لحظة واحدة، بل ثمرة تراكم تاريخي طويل تشابكت فيه جذور متعددة. في عمق هذه الجذور تقف ثقافة السكان الأصليين، أقدم ثقافة إنسانية مستمرة عرفها التاريخ، حيث يمتد حضورها إلى ما يزيد على ستين ألف عام. في رؤيتهم للعالم، لا ينفصل الزمان عن المكان، ولا الأرض عن الروح؛ فمفهوم “الحلم” ليس أسطورة عابرة، بل نظام وجودي يربط الإنسان بالأرض برباط مقدس، ويجعل المكان ذاكرة حية وسردية كونية. ثم جاء الإرث الاستعماري والمهاجرون الأوائل، الذين واجهوا قسوة الطبيعة واتساعها ووحدتها، فصاغت التجربة فيهم قيماً قائمة على التضامن والاعتماد المتبادل، حيث لا نجاة للفرد دون الجماعة. ومع الزمن، أضيف إلى هذا المزيج بعد ثالث تمثل في التعددية الحديثة، التي جعلت من أستراليا مجتمعاً منفتحاً تتجاور فيه الثقافات وتتحاور، لا بوصفها عبئاً، بل بوصفها مصدراً للقوة والتجدد.
ومن هذا الخليط التاريخي تشكلت منظومة قيم باتت تعرف بالطريقة الأسترالية في الحياة، وهي قيم ترفض التعالي والطبقية، وتمجد البساطة والمساواة. تتصدر هذه القيم فكرة الرفقة، التي تتجاوز معنى الصداقة إلى معنى أعمق من الولاء والاستعداد لمد يد العون للآخر، حتى لو كان غريباً. ليست كلمة “Mate” مجرد تعبير لغوي شائع، بل إعلان يومي عن الإيمان بالمساواة والتضامن الإنساني. ويتفرع عن ذلك إحساس راسخ بالمساواة الاجتماعية، حيث يُنظر إلى الجميع باحترام بغض النظر عن المنصب أو المكانة، وتنعكس هذه الروح في سلوكيات بسيطة لكنها دالة، ككسر الحواجز الرمزية بين الناس في تفاصيل الحياة اليومية. ويكتمل المشهد بقيمة “الفرصة العادلة”، ذلك الإيمان بأن لكل إنسان حقاً أصيلاً في المحاولة والنجاح، مع تعاطف خاص مع من يكافحون في الهامش، وكأن المجتمع بأسره يقف في صف “الضعيف” حتى ينهض.
هذه القيم لا تبقى شعارات مجردة، بل تتجسد في نمط حياة يومي يتسم بالعفوية والقرب من الطبيعة. طقوس الشواء في الحدائق والشواطئ، وحتى في المناسبات العامة، ليست مجرد عادة ترفيهية، بل فعل اجتماعي يعيد إنتاج الروابط بين الناس ويؤكد روح الجماعة. والارتباط الوثيق بالطبيعة، خاصة مع تمركز السكان على السواحل، جعل من الأنشطة الخارجية جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، حيث يصبح البحر فضاءً للحرية، والهواء الطلق امتداداً للذات. وتظهر البساطة أيضاً في الملبس واللغة وأسلوب العيش، في ميل واضح إلى الاختصار وكسر الرسميات، وكأن المجتمع بأسره يفضل القرب الإنساني على المسافات المصطنعة. وفي الوقت ذاته، يبرز الاعتراف بالأصل بوصفه ممارسة أخلاقية وثقافية، من خلال طقوس الترحيب بالأرض في المناسبات الرسمية، كإقرار رمزي بأن هذه البلاد لها ذاكرة أعمق من الدولة الحديثة، وأن احترام الجذور شرط لبناء مستقبل عادل.
وتبلغ هذه الصورة اكتمالها في التعددية الثقافية التي تحولت في أستراليا من واقع اجتماعي إلى قوة وطنية. فالتسامح الديني والفكري ليس مجرد نص قانوني، بل ممارسة يومية تتيح للاختلاف أن يكون ثراءً لا تهديداً. لذلك لا نجد هوية غذائية واحدة تختزل البلاد، بل فسيفساء من النكهات تمتد من آسيا إلى أوروبا والشرق الأوسط، كما لو أن المائدة الأسترالية تعكس خريطة العالم. وفي هذا الاندماج الخلاق بين التراث القديم والحياة الحديثة، بين المشي في البرية وصخب المدن، اكتسبت أستراليا عمقاً تاريخياً يميزها عن غيرها من مجتمعات العالم الجديد. إنها قصة مكان صنع الإنسان، وإنسان أعاد تعريف المكان، في حوار مفتوح لا يزال يكتب فصوله حتى اليوم.
***
حميد علي القحطاني







