أقلام حرة

عبد السلام فاروق: على حافة العام

يقال إن الأعوام تغير الكثير، فهي تبدل تضاريس الجبال، فكيف لا تبدل شخصيتك؟ وأنا هنا، على حافة عام يلفظ أنفاسه الأخيرة، أتساءل: هل الحياة قد ساءت حقًا، أم إنني لم أعد كما كنت؟ يقف العام على رصيف المحطة، يرفع يده في توديع صامت، برقة خانقة. نعرف جميعًا أن هناك محطات قادمة، لكن زجاج النوافذ متبخر، والعالم الخارجي يمر كحلم ضبابي. نحن نجلس في عربة القطار البارد، نلمس في جيوبنا قطعة معدنية وحيدة، نتصارع مع فكرة شراء قهوة الصباح.

العبقرية في الأمر كله أننا نسمي الأشياء بأسماء جميلة. في عالم صار يشبه مسرح عرائس كبير، تعلن الأرقام عن مؤشرات إيجابية هنا وانتعاش محتمل هناك. صندوق النقد الدولي يبدو كاسم لعطر فرنسي فاخر، لا لجهة تضع شعوباً بأكملها تحت المجهر. والحكومات العظمى تتجادل كأطفال في ساحة المدرسة حول من يمتلك الكرة الأجمل، بينما الكرة نفسها - تلك الكرة الأرضية - تنتظر من يلعب بها حقاً.

معدل النمو؟ مجرد رقم يعرفه المحللون في وول ستريت. مقياسه الحقيقي الوحيد هو ابتسامة طفل حصل على حذاء جديد للمدرسة. أليس من الظريف أن يكون هذا هو المقياس؟ نحن نرقص جميعًا في العتمة، نتابع أضواء المؤشرات وهي تلمع وتخبو، بينما يد كل منا تبحث عن يد أخرى في الظلام.

في معرض فني، رأيت ذات مرة لوحة لعجوز يجلس على كرسي في شارع خال. كان عنوانها: "ينتظر الباص". وقفت أمامها دقائق طويلة.

كم منا ينتظر باصًا لن يأتي؟

باص الحب. باص النجاح. باص الاعتراف.

الفن العصري أصبح مثل تلك الرسائل التي نضعها في زجاجات ونلقيها في البحر. لا نعرف إذا كان أحد سيجدها، لكننا نكتبها لأن قلوبنا ممتلئة إلى حد الانفجار. نكتب لأننا نبحث عن شخص نعرفه بقربنا، نحكي له كل شيء، نقص عليه حكاية الثقب الذي يتسع في الروح. لذلك نحن نصنع الفن: لوحات، مقالات، خواطر. إنها كلها زجاجات نرميها في بحر اللامبالاة، على أمل.

كوب الشاي الأخير

في الليل، حين تغلق شاشة هاتفك، هناك عالم آخر يعيش تنفسه الهادئ. إنه عالم الأسر التي تلتقي على مائدة واحدة نادرة الحدوث وتتحدث عن تفاصيل صغيرة: كيف نمت زهرة البنفسج في الشرفة رغم الإهمال، كيف وجدت الجدة صورة قديمة لها وهي في العشرين.

في هذا العالم الموازي، ما زال الجيران يتساءلون عن بعضهم إذا غاب أحدهم يومين. وما زالت رائحة الطعام تنتقل من شقة إلى أخرى كرسالة سلام غير معلنة. في زمن المواطنة الرقمية، تظهر لنا أن أقوى شبكة اجتماعية لا تزال مصنوعة من نظرات التفاهم في المصعد، ومن كوب سكر مستعار في منتصف الليل.

هنا، على حافة العام، ننتظر دقات منتصف الليل. ربما نتمنى أمنيات صغيرة، لأن الكبيرة تحتاج لطاقة لم نعد نملكها. نتمنى أن نجد موقفاً للسيارة. أن يشفى الجار العجوز من زكامه. أن تستمر الكهرباء. في هذه الحميمة الإنسانية، في هذه الحياة اليومية التي نمضيها رغم كل شيء، تكمن المعجزة. العالم الكبير يدور في فلك المصالح، لكن عالمنا الصغير عالم غرفة الجلوس يدور في فلك القلب.

من نافذتي، أرى الناس يتحركون كظلال في الشتاء. كل منهم يحمل عامه على ظهره كحقيبة سفر ثقيلة. بعضها مليء بذكريات، وبعضها مليء بأحلام مؤجلة.

العام الجديد سيأتي لا محالة. سيقرع الباب ببرود. سنفتح له ونحن نعلم أنه سيأتي بحزنه وأفراحه الصغيرة، بانتصاراته وخيباته. لكننا سنفتح الباب. لأن هذه هي الحياة: استقبال الضيوف الجدد، حتى ولو كنا ما زلنا نحس بفراق القديمين.

في النهاية، المهم كم حلماً ما زلت تجرؤ على أن تحلم به. ليس المهم كم مرة سقطت، بل كم مرة قلت لنفسك: لن أحاول مرة أخرى. في هذه اللحظة، بين نهاية وبداية، نحن مجرد أطفال نلعب بالثلج الذي يذوب بين أصابعنا. نعلم أنه سيزول، لكننا نستمتع ببرودته اللحظية، وبياضه النقي، وبفرحته العابرة.

إلى العام الجديد، الذي سيكتب على جبينه كما نكتب على دفاترنا المدرسية القديمة لنحاول مرة أخرى.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم