أقلام حرة
علي الطائي: حين يتحوّل الدين إلى لغز.. مَن يُخاطِبُ مَن؟
لم يكن الدين، في جوهره الأول، لغزًا مغلقًا ولا خطابًا نخبويًا متعاليًا. لقد وُلد في الساحة العامة، في السوق، في البيت، في الطريق، في لحظة خوفٍ أو رجاء. كان كلامًا مفهومًا، مباشرًا، يلامس القلق الإنساني، ويجيب عن أسئلة الحياة اليومية قبل أن يُنظَّر لها في بطون الكتب. غير أن ما نراه اليوم في كثير من بلداننا هو انقلاب هادئ لكنه عميق: الدين لم يَعُد خطابًا موجَّهًا إلى الناس، بل صار في كثير من الأحيان حوارًا مغلقًا بين فقهاء، بلغة لا يفهمها إلا أهلها، وكأنها شيفرة سرية لا يُسمح للعامة بفكّها.
لقد تحوّل الدين، عند بعض المتصدّرين له، من رسالة إلى “مصطلح”، ومن هداية إلى “بنية لغوية معقّدة”، ومن سؤال أخلاقي حيّ إلى تمرين ذهني تجريدي. نسمع فقيهًا يخاطب فقيهًا، ويجادل مدرسة أخرى، ويستعرض ترسانة من الاصطلاحات الفقهية والكلامية، دون أن يلتفت إلى أن السامع البسيط قد انقطع منذ الجملة الأولى. هنا لا يعود السؤال: ما الذي قيل؟ بل: لمن قيل؟ وهل قيل أصلًا لمن يحتاجه؟
إن أخطر ما أصاب الخطاب الديني في واقعنا ليس الاختلاف المذهبي، ولا حتى التسييس فحسب، بل هذا الانفصال الصامت بين “الدين كما يُدرَّس” و”الدين كما يُعاش”. فحين يتكلّم الفقيه بلغة لا يفهمها الناس، لا يرفع من شأن الدين، بل يعزله. وحين يتعالى الخطاب الديني عن الشارع، يتركه فارغًا، فيملؤه آخرون: متطرفون، أو سطحيون، أو تجّار شعارات.
التاريخ الإسلامي نفسه يقدّم لنا صورة مغايرة تمامًا. أغلب علماء المسلمين الكبار لم يكونوا ناطقين باسم الأبراج العاجية. كانوا أبناء السوق، والمجالس العامة، والناس البسطاء. إن الخطاب النبوي نفسه كان نموذجًا أعلى في البساطة العميقة: كلمات قليلة، مفهومة، لكنها قادرة على تغيير إنسان.
أما اليوم، فكأن بعض الفقهاء قد اختاروا أن يتحدثوا فوق الناس لا إليهم. وكأن النزول إلى الشارع، إلى لغة اليوميّ، إلى أسئلة البطالة والظلم والقلق الوجودي، صار أمرًا دونيًّا لا يليق بـ”مقام العلم”. فارتفعت الأسوار النفسية واللغوية، وتحوّل الدين إلى مادة استعراض معرفي، لا إلى طاقة أخلاقية حيّة.
إن الدين الذي لا يُفهم، لا يُعاش. والدين الذي لا يُخاطِب الإنسان في لحظته، يتحوّل إلى أثرٍ تاريخي لا إلى قوة فاعلة. ليست المشكلة في العمق، بل في الانغلاق؛ وليست في التخصص، بل في احتكار الخطاب. فالعلم الديني الحقيقي لا يخاف من البساطة، لأن البساطة ليست سطحية، بل شجاعة في الوصول.
نحن لا نحتاج إلى فقهاء أقل علمًا، بل إلى فقهاء أكثر إنسانية. إلى خطاب ديني يعرف أن المعرفة إن لم تُترجَم إلى لغة الناس، تحوّلت إلى عبء. وأن الفقيه إن لم يسمع ضجيج الشارع، لن يفهم صمته. الدين، في النهاية، ليس لغزًا رياضيًا، ولا شفرة مغلقة، بل نداءٌ مفتوح: يا أيها الإنسان… فهل ما زال من يوجّه هذا النداء؟ ومن يسمعه؟ أم ابتلينا بأصنامٍ تُعبَدُ، وعبّادٍ رعاع!!.
***
بقلم: د. علي الطائي
30-12-2025






