روافد أدبية
رافد القاضي: مملكة الغياب
ليلٌ بلا آخر...
يمتدُّ كبحرٍ
من ظلامٍ لا شاطئ له
تتكسّر فيه الأرواحُ
على صخور الأنين
وتتساقطُ قناديلُ الهوى
كنجومٍ ميتة
فتغدو السماءُ رمادًا
يتطايرُ في فضاءٍ أعمى
لا يعرفُ طريقًا إلى الفجر
كان هناك فارسٌ
يركضُ خلفَ السراب
يُطاردُ ظلَّ الأحلامِ الممزقة
ويُسقي عطشَهُ
من نهرٍ بلا ماء
ثم يعودُ مثقلًا بالخذلان
كأنَّ خطواتَهُ تُجرُّ سلاسلَ
من حديدٍ صدئ
امرأةٌ أحرقتْ رسائلَها
ونثرتْ حروفَها في الريح
كأنها تُعلنُ موتَ اللغة
كي لا يقرأها عاشقٌ آخر
ولا يلمسَها قلبٌ غريب
فبقيت الكلماتُ بلا مأوى
تسكنُ في صمتِ الليل
وتبكي على أطلالِها
كأيتامٍ يبحثون
عن حضنٍ ضائع
مدينةٌ غمرها الغياب
شوارعُها خاويةٌ
كأحلامٍ منسية
أبوابُها موصدةٌ
كقلوبٍ يابسة
ونوافذُها تُطلُّ
على الفراغ
كأنها تنتظرُ عودةَ
ساكنٍ لن يعود
كأنها تُصغي إلى وقعِ
خطواتٍ لن تُسمع
زمنٌ كان فيه العشقُ تاجًا
ثم صارَ قيدًا يجرحُ المعاصم
قلوبٌ باعتْ أحلامَها
واشترتْ الوهمَ بأغلى الأثمان
وجوهٌ ضحكتْ في النهار
وبكتْ في الليل
وأرواحٌ تاهتْ
بين الحقيقة والخيال
كطيورٍ فقدتْ أجنحتَها
في منتصفِ الطيران
شاعرٌ مزَّقَ دفاترَه
لأن القصائدَ
لم تُنقذْهُ من وحدتِه
موسيقيٌّ كسرَ أوتارَ عودِه
لأن الألحانَ لم تُسكِتْ وجعَه
رسّامٌ غطّى لوحاتِه بالسواد
لأن الألوانَ خانتْهُ
في لحظةِ صدق
فصار الفنُّ مقبرةً للأحلام
والغيابُ أصبحُ وطنًا
الحنينُ يتحوّلُ إلى سجنٍ
والذكرياتُ تُصبحُ سكاكينَ
تطعنُ القلبَ
كلَّما حاولَ أن ينسى
كأنها لعنةٌ لا تُمحى ولا تُشفى
سلطانٌ فقدَ عرشَه
لا لأنَّ الأعداءَ غلبوه
بل لأنَّ قلبَهُ خانَه
فباعَ مملكتهُ في سوقِ الهوى
ورحلَ بلا رايةٍ ولا جيشٍ
كأنَّهُ لم يكن يومًا ملكًا
بل كان أسيرًا
في قصرٍ من وهم
يُطاردُ أشباحًا
ويُبايعُه الفراغَ
على عرشٍ من دخان
يذوبَ الكلامُ في الكلام
ويغدو الصمتُ أغنيةً
والحزنُ قصيدةً
والغيابُ روايةً لا تنتهي
كأنها بحرٌ لا قرار له
كأنها سماءٌ بلا نجوم
كأنها حياةٌ بلا حياة…
وفي آخر المدى
حين ينهارُ الصدى
في حضنِ الصمت
وتذوبُ الملامحُ
في غبارِ النسيان
يبقى الأملُ سيدًا أبديًّا
يعلو على جدار القلب براياته
ويعلن أن الفرح سيعود يومًا
وأن فجرًا جديدًا سيكسر هذا الليل...
***
د. رافد حميد فرج القاضي






