اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: الفلسفة ضرورة أم ترف؟

الفلسفة مغامرة العقل البشري في بناء الحقيقة، ومنذ أن ظهرت الفلسفة، وهي موضوع شكّ، وما يزال البعض اليوم يُشكّك فيها على أساس تغوّل العقل البشري. وتبدأ مشكلة الفلسفة في معارضتها للدّوكسا باعتبارها مجموعة المعتقدات التي تؤكد نفسها بقوة الدليل دون الحاجة إلى دعمها بالحجج، والدّوكسا بعيدة عن العلم، فهي أداة معرفية غير مشبعة، لكنها تعطي معرفة هي شرط لسعادة العمل في مجال ما، حسب بورديو.

إن الفلسفة هي إدراج العقل في العالم، فهي طريقة خاصة في التّفكير، وقد لا يكون لها أثر مباشر على الواقع، ولهذا السبب اعتبرت الفلسفة لا معنى لها عند بعض فقهائنا، حتى قال شاعرهم الفقيه: فاقذف بأفلاطون ورسطالس وذويهما تسلك طريقاً لاحبا ودع الفلاسفةَ الذّميمَ جميعَهم ومقالَهم تحت الأحق الواجبا يا طالب البرهان في أوضاعهم أعزز علي بأن تعمر خائباً.

إن الفلسفة وإن لم تكن ضرورة من ضرورات الحياة، بدليل أن أهل البادية لم يعرفوها، فإن الحياة الإنسانية لا تكمُل إلا بها، فالفلسفة بهذا المعنى هي ضرورية في الكمال الإنساني لارتباطها بالصّنائع والعلوم، وما يكون من جهة الأفضل والكمال هو أهم مما يكون من جهة الضرورة، فلكي يحافظ الإنسان على بقائه الدّنيوي يكفيه أن يستعمل قوّته الغاذية والمولدة، أكلا وتناسلا، لكن إذا رام البقاء الأزلي، فلا مندوحة له من استخدام قواه العقلية وتفعيل قيمه الإنسانية العليا، فبهذه تحصل له أولى مراتبه، ثم مع الاعتناء بالعلم والمعرفة والفنون يتدرّج الإنسان في مراتب الكمال الإنساني، ومن هنا أهمية الفلسفة عموماً.

فإن من حاجات النّاس إلى عمرانهم البشري، الصّنائع والعلوم، وإنّ واقع النّاس المرتبط بمعيشهم لا يفرز إلا مشكلات عملية، ومن هنا فهو بعيد عن الفلسفة مهتم بالأمور العملية. إنّ العلم، الّذي هو المحرّك الأول للتّقدّم الإنساني، لا يقوم إلا على النّظر، وللذّات الفلسفية دور أكبر في تشكيل الواقع وبنائه، والغريب أنّ هذا الدّرس الذي تعلّمناه من كانط أشار إليه الجاحظ بعبارات قوية ورائقة، يقول الجاحظ: «ولولا ما أبدعت لنا الأوائل من كتبها، وخلّدت من عجيب حكمتها، ودوّنت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بهم ما غاب عنا، وفتحنا بهم كل مستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خسئ حظنا من الحكمة، ولضعف سببنا إلى المعرفة»، مشيراً إلى ما يستفيده العقل الدّارس للفلسفة من قدرة على الاكتشاف والإبداع المعرفي وحلّ المشكلات التي يعجز عن حلها عقل غير متمرس بالفلسفة.

والنّاظر في تاريخ الثّقافة الإسلامية يجد أن العلماء الذين شفُّوا على أقرانهم، وكانت لهم إبداعات جليلة، أكثرُهم تمرَّس بالفلسفة درساً وفهماً، وهناك أمثلة كثيرة في هذا المجال. وتظهر قيمة الفلسفة، بشكل جلي، في عصر الذّكاء الاصطناعي الذي يشكل تحدّياً كبيراً للعقل البشري، وبالفلسفة يستطيع هذا العقل أن يحافظ على ذاته من الانهيار والسّقوط. إنّ أعظم ما في الإنسان فكرُه، والفلسفة ضرورية لكمال الفرد، إذ كلما كانت الذّات قادرة على التّفكير بنفسها تفكيراً عقلانياً ونقدياً، كلما كانت ذاتاً حُرّة ومسؤولة، تتمتّع بالفاعلية والرّشد، وتساهم في تنوير مجتمعاتها.

إنّ الفلسفة باعتبارها نظر في الإشكالات، بما تحويه من غموض وصعوبات وإحراجات ومفارقات، كفيلة بأن تحفظ للعقل وجوده أولاً، ثم كماله المعرفي ثانياً، وأن تحفظ للإنسان إنسانيته الأصيلة ثالثاً. فمجال الفلسفة هو مجال الاكتشاف واليقظة الفكرية الدائمة، ومن هنا أهمية الاعتناء بالمناهج الفلسفية التي تمخّض عنها تاريخ الفكر النظري.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 1 مايو 2025 23:36

في المثقف اليوم