اخترنا لكم

أحمد المسلماني: التاريخ يحدث في العقل أولاً

يتمنى الإنسان لو أنه عرف كل شيء من الأزل إلى الأبد، لكنه لا يعرف إلاّ كلمة أو نصف كلمة في موسوعة كبرى.. تمتدّ أجزاؤها بلا نهاية. لطالما كان الإنسان مشغولاً بالغيْب.. غيْب الماضي، وغيْب المستقبل.

وحيث إنّنا لا نعرف من الماضي إلاّ القليل جداً، فإن محاولة معرفة تاريخ العالم، وتاريخ الوجود الإنساني على هذا الكوكب، وتاريخ الكوكب نفسه قبل الوجود الإنساني.. هي محاولة دائمة لسبْر أغوار ذلك المجهول. في عام 1922 صدر في لندن كتاب «ويلز» الشهير «تاريخ موجز للعالم»، وفيه تحدث عن تاريخ الأرض، وتاريخ الحياة، وتاريخ الإنسان.. ليتوقف عند نهاية الحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم.

وقد جاء الكتاب ممتعاً، وقابلاً للقراءة لا مجرد الاقتناء، حتى إن عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين رشحه للقراءة، لمن يريد فهم تاريخ العالم. بعد الحرب العالمية الثانية سطع فرع جديد في علم التاريخ هو «التاريخ الفكري».. وبعد أن كانت كلمة التاريخ كلمة جامعة من دون تقسيم حادّ أو تمييز واضح بين جانب وآخر، صار لدينا تواريخ لا تاريخ، فهذا هو التاريخ السياسي، وهذا التاريخ العسكري، وهذا الاقتصادي، وهذا الثقافي، وهذا هو التاريخ الاجتماعي، وتاريخ العلوم والفنون. راح المؤرخون العسكريون يدرسون تاريخ الحروب والمعارك، وراح مؤرخو السياسة يدرسون صعود وهبوط الدول، وسطوة أو ضعف النخب السياسية والحكومات والحكام، ثم راح مؤرخو الاقتصاد يدرسون حالة المال ومستوى المعيشة وحجم الفقر والثراء، ودور الاقتصاد في الحرب والسلام، ودوره في بناء المعالم المادية للحضارة. توقف مؤرخو الثقافة عند نمط الحياة من ملبس ومأكل، وعند تجارب الحياة، ووقفَ التاريخ الاجتماعي على دراسة الحياة اليوميّة والناس العادية، فيما بات يسمى دراسة «التاريخ من أسفل».

في عام 2025 صدرت الترجمة العربية لكتاب المؤرخ البريطاني فيليب فرناندز أرميستو، ويعد ذلك الكتاب «الأفكار التي شكلّت العالم» نموذجاً للتأريخ الفكري لعالمنا. تقوم أطروحة الكتاب على أن الفكر هو المبتدأ والتاريخ هو الخبر، أو أن الفكر هو السبب والتاريخ هو النتيجة، فليس العالم إلاّ نتاج تطور وحركة الأفكار، فالفكرة تسبق الحركة، والتاريخ لا يحدث في الواقع ابتداءً، ولكنه يحدث في العقل أولاً.

وقد رأى الكاتب أن يبدأ بدراسة الأفكار منذ بداية الإنسان لا بداية الحضارة، وحيث إن الإنسان - برأيه - موجود قبل (150) ألف سنة، فقد رأى ألا يكتفي بدراسة الخمسة آلاف عام الأخيرة، بل الخمسين ألف عام.. ليرى كيف كانت الأفكار صانعةً للتاريخ. يحظى التاريخ الفكري للعالم ببريق متجدّد، فهو تاريخ يتمدد من تاريخ الأفكار والمفكرين.. ليشمل تاريخ الفلسفة، وتاريخ العقل، والتاريخ الأدبي، وهو ما عبّر عنه الفيلسوف الإنجليزي «كولينجوود» في جملة بليغة..«إن التاريخ كله هو تاريخ الفكر». إذا كان من عظة في خبَر من غبَر.. فإن الإصلاح الفكري هو أهم أشكال الإصلاح وأكثرها جذرية، أو هو الإصلاح الأول الذي يليه كل إصلاح. فكما يبدأ التاريخ في العقل، يبدأ الحق والخير والجمال في العقل، ويبدأ الرخاء والسلام في العقل.

إن عالمنا يعاني حروباً مروعة، وهو مهدد بحروب أكثر ترويعاً، ويتحدث كبار قادة العالم عن احتمالات حرب نووية، أو إمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة. إن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل داخل العقول، ولم يتبق إلاّ أن تنتقل من العقل إلى الميدان، وإذا كان التاريخ يحدث في العقل أولاً، فإن الحرب تحدث في العقل أولاً، ولسوء الحظ أنها حدثت بالفعل.

لا يزال بإمكاننا إنقاذ عالمنا، لا يزال بالإمكان إزاحة الحرب من العقل، ولا يزال بمقدورنا صناعة عالم أفضل. في ظل ثروة علمية لا مثيل لها. سيكون مؤسفاً للغاية أن تكون نقطة الذروة هي نقطة النهاية، وأن تصبح أعلى قمة في جبل الحضارة.. هي الخطوة الأولى نحو الوادي السحيق. العقل هو الحل.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 يونيو 2025 23:30

في المثقف اليوم