اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: عن المناهج الفلسفية

لم يكن المنهج مرتبطاً بالفلسفة وحدها، فقط كان المنهج صديق المعارف كلها، لكنه أصبح لصيقاً بالفلسفة والعلم للآثار الكبرى، التي خلّفها التّعويل عليه والاعتماد عليه عبر تاريخ الفلسفة.

تعود كلمة منهج إلى méthodos في الإغريقية، فهي مشتقة من odós وتعني الطريق، وmetá وتعني صوب ونحو، فالمنهج يدل على الطريق الذي يسير في اتجاه معين، فهو مسار وطريقة، له هدف وغاية. ومن هنا اعتبر المنهج «مجموعة من الخطوات المنطقية والعقلانية، التي تجعل من الممكن الوصول إلى هدف ما». ومن هنا أصبحت للمنهج أبعاد عملية ونظرية، وقد بات المنهج في الفلسفة والفكر أداة حاسمة، إذ بدونه لا يمكن للنّشاط الفكري أن يسير ويحقق نتائجه المرجوة، فبدونه لا يمكن التفكير وفق خطة مدروسة ومحددة مسبقاً، وإلا كان مصير التفكير العاري من المنهج الفشل الذريع.

عندما صرح الغزالي أن العاطل من المنطق لا يوثق بعلمه، فهو كان يشير إلى هذه الحقيقة النّاصعة، وهي أنه من دون منهج، يرسم المسلك الذي يتبناه العقل في تحليل وفهم مجموع قضايا، فإن العقل يتيه ويضيع، مذكراً بالصنيع الأكبر لأرسطو، والذي أصبح به المعلم الأول، وهو وضع قواعد للعقل ومنهجاً للتفكير، وهي القواعد التي سار عليها فلاسفة الإسلام بتبينهم للمنطق الأرسطي والذّوذ عنه، وإن كان لبعضهم تحفظات عليه وخروج إلى مناهج فرعية تطعمه وتعضده.

فقد ظلّ المنهج الأرسطي يتربع على رؤوس الفلاسفة حتى وضع ديكارت كتابه الشهير «خطاب في المنهج»، والذي كشف به المنهج الأرسطي، وفتح الباب بقواعده الأربع لطريقة جديدة في اشتغال العقل العلمي والفلسفي، بعد أن كتب قبله فرنسيس بيكون كتابه «الأورغانون الجديد» الذي كان يقصد من ورائه تقديم منهج جديد مخالف للمنهج الأرسطي تأكيداً منه على المنهج الاستقرائي، على خلاف ديكارت الذي ركّز على المنهج الاستنباطي. وكلا المنهجين حركا العقلين العلمي والفلسفي وكان لهما أكبر الأثر في تحريك عجلة التّقدم للسيطرة على الطبيعة.

منذ أن تحرك العقل الفلسفي والمنهجُ رفيقُه، فمن المنهج التوليدي مع سقراط، في صيغته الكاملة في محاورات أفلاطون، إلى المنهج الجدلي الصاعد والنازل مع أفلاطون، إلى الأورغانون مع أرسطو، إلى المنهج التجريبي مع بيكون، والمنهج الرياضي مع ديكارت، إلى المنهج النقدي مع كانط، إلى المنهج الجدلي بأطروحته ونقضيها وتركيبها مع هيغل، إلى المنهج المادي التاريخي مع ماركس، إلى المنهج الفينومينولوجي مع هوسرل، إلى المنهج الهيرمينوطيقي مع شلايمخر، إلى المنهج الجنيالوجي مع نيتشه، إلى المنهج التفكيكي مع ديريدا، وغيرها من المناهج التي وسمت العصر الحديث حتى أصبح يسمى عصر المناهج، حيث نجد كل تيار فلسفي إلا ويتأسس على منهج متبع.

الفيلسوف هو مفكر- كاتب يلتزم طريقة في التفكير حتى وهو يتمرد ويرفض طرق فلاسفة آخرين. ومن هنا أهمية الاعتناء بالمناهج في الدراسات الأكاديمية، حيث إن الوعي ومعرفة هذه المناهج يساعد الباحثين على تتبع اختلاف طرق استدلال وتأمل الفلسفة لمواضيعها الأثيرة التي تنطوي تحت المواضيع الثلاثة الكبرى: الحق والخير والجمال، ويُزوّدُهم بطرق واضحة في الكتابة والتفكير، ويختصر عليهم كثيراً من الطرق الموحشة، التي قد يتعثرون فيها إذا خاضوها دون منهج واضح وقوي.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 29 مايو 2025 23:45

 

في المثقف اليوم