اخترنا لكم

محمد البشاري: هل يكون الإنسان مرئياً دون اعتراف؟

حين نتأمل في العلاقة الأولى التي تربط الإنسان بالعالم، نجد أنها لا تنشأ من سيطرة، ولا من حاجة، بل من رؤية: أن يُرى، أن يُلتقط حضوره من قبل عين الآخر. من هنا تبدأ كل قصة للكينونة، ومن هنا أيضاً تبدأ كل أزمة للوجود. فالاعتراف ليس مجرّد اتفاق اجتماعي أو اعتراف قانوني، إنه الشكل الأعمق للقبول بالآخر بوصفه جديراً بالحضور، مشاركاً في المعنى، ومحمولاً على القيمة. ومن هنا تتأسّس كل هوية، لا عبر انفصال الذات عن الآخر، بل عبر انتزاع الذات لمكانتها ضمن أفق أخلاقي مشترك. لكن هل يكفي أن يوجد الإنسان ليُرى؟ أم أن الرؤية مشروطة بمنطق لا يملكه، بقواعد يجهلها، وبسلطة توزيع خفيّة تتحكم في مَن يُعترف به ومَن يُقصى من دفاتر الوجود؟

في هذا السياق، لا يمكن فصل مطلب الاعتراف عن بنية المجتمع الرمزية. فما من ظلم أعمق من أن تكون حاضراً بلا أثر، مرئياً بلا اعتبار، متكلماً بلغة لا تجد أذناً تصغي إليها. إننا لا نُقصى فقط حين تُسلب منا الحقوق، بل حين يُعاد تأطيرنا ضمن تمثيلات تختزلنا أو تشوّه حضورنا أو تلغي تعددنا.

وهذا ما عبّر عنه أكسل هونيث حين قال إن المجتمع الذي لا يتيح لأفراده تحقيق ذواتهم دون المرور من تجربة الاحتقار، ليس مجتمعاً عادلاً بل هو جهاز يُعيد إنتاج الإقصاء ضمن أشكالٍ متقنة من الصمت أو التمويه أو التبرير. لكن، هل الاعتراف مسألة تخصّ فقط الفئات المهمشة أو الأقليات؟ أم أنه بنية كامنة في كل علاقة بشرية، في كل تفاوض ضمني حول القيمة، في كل سياق نُمنح فيه مكانة أو يُنكر علينا الحق في الظهور؟

هنا، تبرز أهمية ما نبّه إليه عالم الاجتماع الفرنسي أوليفي فوارول، حين دعا إلى تجاوز التفسير التبسيطي الذي يحصر الصراع من أجل الاعتراف في رهانات الهويات والاندماج الرمزي، ليؤكد أن الاعتراف هو محرك أعمق للنزاعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل هو مفتاح لفهم التجارب الأخلاقية التي تُنتج الفعل الجماعي ذاته. الاعتراف، إذاً، لا يُختزل في فعل صادر عن طرف قوي لطرف ضعيف، بل هو التقاءٌ بين ذوات تُدرك أن وجودها لا يكتمل إلا حين يُؤخذ على محمل الجد.

وليس في الأمر أي نزعة مثالية: فالكرامة لا تحتاج إلى شروط تبريرية لتُمنح، ولا إلى انتماء وظيفي لتُحتسب. بل إن الخطر كل الخطر أن يُعاد تشكيل العلاقات الإنسانية ضمن مبدأ النفعية أو التمثيل المصلحي، بحيث يُمنح الاعتراف على أساس التكيّف، لا على أساس الأصالة، على أساس التشابه، لا على أساس الفرادة. في لحظة كهذه، يصبح الصراع على الاعتراف ليس مجرد تعبير عن التوترات، بل مرآة تعكس هشاشة البنية الأخلاقية للمجتمع. فما من مجتمع يمكن أن يدّعي الاستقرار، وهو يعيد بشكل دوري إنتاج فئات غير مرئية، غير مذكورة، غير معترف بها. إن الذين لا يُسمح لهم بأن يكونوا ذواتاً، يُعاد إنتاجهم كصدى باهت، أو ككائنات تُرى ولا يُصغى إليها.

وحين لا يجد الفرد مرآةً يرى فيها ذاتَه، فإنه يتيه بين صور الآخرين، أو ينكفئ إلى الداخل، أو ينفجر في وجه مَن تجاهله. هل نملك شجاعة إعادة بناء نظام القيم الذي يوزّع الاعتراف؟ هل يمكن أن نُؤسس لعلاقات يكون فيها الاعتراف غير مشروط، وغير مسوّغ، بل بدهي؟ وهل نمتلك القدرة على تربية أجيال لا تتعلم فقط كيف تطالب بالاعتراف، بل كيف تمنحه دون تردد، دون منّة، ودون ميزان مزدوج؟ قد لا تكون الإجابة قريبة، لكن السؤال ذاته هو علامة الوعي بأن الإنسان لا يُصبح إنساناً كاملاً إلا حين يُرى، ويُسمع، ويُحترم.. فهل نحن مستعدون لأن نرى ما لم نكن نراه؟

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 3 يونيو 2025 23:30

 

في المثقف اليوم