اخترنا لكم

السيد ولد أباه: الذكاء الاصطناعي والرهانات المعرفية الحاضرة

يكثر الحديث في أيامنا عن الذكاء الاصطناعي من حيث كونه قلَب العلاقةَ التقليدية بين المعرفة والواقع، وأنشأ مسالكَ جديدةً في التربية والثقافة، بما شكّل تحولاً نوعياً في الوجود الإنساني. بعض الكتّاب احتفى بهذه التحولات الراهنة واعتبرها نتاجَ ثورة معرفية كبرى تتيح للإنسان المعلومةَ السهلةَ الشاملةَ، في حين رأى آخرون أنها كرست عالمَ التخيل الوهمي وما بعد الحقيقة.

وفي كتابه الجديد «اقتحام الواقع»، يبين عالم الاجتماع الفرنسي «جيرالد بروننر» أن هذه الظاهرة، وإن كانت لها خصوصياتها التقنية البارزة التي انجرت عن الطفرة المعلوماتية الرقمية، إلا أنها تندرج في مسار اجتماعي تاريخي طويل، هو ميل الإنسان إلى استبدال الواقع برغباته الذاتية. ومن هذا المنظور، يمكن فهم عدد من الممارسات البشرية الأخرى، مثل السحر والأسطورة والأيديولوجيا.. فكلها تعبّر عن هذا التوجه لبناء عالَم بديل عن الواقع القائم.

إلا أن التوجه الرغائبي أضحى أقوى في العصور الحديثة، إلى حد أن الكسيس دي تكوفيل اعتبر أن المجتمعات الديمقراطية المعاصرة تقوم على انزياح هائل بين الرغبات والواقع الذي يمكن أن تحققه فعلا، بما يولد حالة من الإحباط الواسع. وهكذا يلجأ الإنسان إلى اختراع عالَمه الخاص الذي يتوهّم تحقيقَ رغباته فيه. يقول بروننر، إن روسو انتصر على ماركس في انتفاضة 1968 التي هيمنت فيها ثقافة الرغبة على اعتبارات الواقع، فغدت الذاتية الراديكالية هي معيار الالتزام السياسي (أي الأنا الأصيل الذي أفسدَه المحيطُ الاجتماعي كما كان يقول روسو).

ما حدث راهناً هو أن التقنيات الرقمية أصبحت توفر بدائل فعلية عن الواقع. فمنذ عام 2016 غدت الروبوتات تنتج من المعلومات أكثر مما ينتج البشرُ، وهو الاتجاه الذي بلغ مداه مع الذكاء الاصطناعي الذي قضى كلياً على الواقع. فالتقنيات ما بعد الإنسانية تطمح اليوم إلى تحقيق حلم جلجماش في التغلب على الموت، في الوقت الذي استطاعت فيه الأيديولوجيا البيولوجية الجديدةُ القضاءَ على التمييزات الطبيعية بين الأنواع والأجناس والألوان، بحيث تحول الإنسان إلى كائن هوياتي متنقل بدون ثوابت محددة. بل إن الفروق بين الكائن الحي وغير الحي غدت غائمة، لأول مرة في تاريخ البشرية.

والأخطر من هذا كله غياب إجماع توافقي حول الواقع الموضوعي ونمط المعرفة العقلانية، بما يفتح ثغرةً خطيرة في الجهاز التصوري البشري. وليست هذه الرؤية خاصة بالنزعات اليسارية الراديكالية، بل نلمسها أيضاً في التيارات الشعبوية الصاعدة حالياً من حيث مقاربتها الحدسية المباشرة للعالم، والتي هي عكس الأفكار النقدية المتناسقة الدقيقة.

في خاتمة كتابه، يستشرف بروننر سيناريوهين أساسيين في رسم مستقبل العالم: إما أن يدخل الكون في الذات الحميمية الباطنية على شكل واقع افتراضي متخيل، بحيث يعتقد الإنسانُ أنه هو ما يرغب فيه، أو تقتحم الذاتُ الكونَ كلَّه كما يطمح إلى ذلك الاتجاهُ ما بعد الإنساني. وفي الحالتين، يختفي الآخر ويغيب المغاير، مع أن السعادة تقتضي العلاقة بالآخرين.

ما يخلص إليه بروننر هو أن «الحقل المعرفي»، وهو المجال التواصلي الذي تنتقل فيه الأفكار والمعتقدات والإشاعات والأخبار الزائفة، قد تغير نوعياً جرّاء الثورة الرقمية الاتصالية، بحيث لم تعد المعارف المشروعة مقننةً في تقاليد مؤسسية ضابطة، بل صارت المنتجات داخل هذا الحقل تنتقل دون قيود أو ضوابط. وهكذا استبدلت قيم الصدقية والبرهان بالانطباعات الشعورية والإحساسات العاطفية السريعة والرغبات الذاتية.

 ما نخلص إليه من عرض أطروحة بروننر هو أن حركية الذكاء الاصطناعي بقدر ما فتحت آفاقاً رحبة للمعرفة والعلم، ولدت تحديات جديدة، أخطرها ما يتعلق بالمحددات الابستمولوجية، أي ما يخص معايير الحقيقة والمعنى والمعقولية.

في بداية مسار الفلسفة خلال العصور اليونانية، ولّدت الثورةُ العلمية الأولى في تاريخ البشرية المتمحورة حول الرياضيات تحدياتٍ مماثلةً، وكان الإشكال الذي عالجه أفلاطون وأرسطو هو: كيف نصفي السيلانَ القولي لننقذ الحقيقةَ والمعنى؟

لقد اعتبر أفلاطون أن المسلك الوحيد هو الخروج من عالَم الحس إلى أفق الوجود العقلي، في حين أراد أرسطو اختراع الآلية المنهجية القادرة على رسم الحد الفاصل بين الحقيقة والوهم (المنطق).

 والتحدي ذاتُه قائم في العصر الحاضر الذي انهارت فيه الوسائط الابستمولوجية والمؤسسية للمعنى، وانتفت الحواجزُ الموضوعية بين الواقع والتصور، في حين تحولت الفلسفة إلى ممارسة لغوية تأويلية لم تعد قادرة على الوفاء للمشروع الأفلاطوني الأرسطي الأصلي الذي هو ضبط العلاقة التطابقية بين الوجود والعقل.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

24 أغسطس 2025 23:45

في المثقف اليوم