قراءة في كتاب

علي المحمد علي: الإبداع النقدي والترتب المنهجي

في كتاب: "هكذا قرأت عبد الجبار الرفاعي: لمحات حول المشروع الفكري"

تعود قراءاتي للمفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي يوم كنت طالبا في المرحلة الجامعية. وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على تلك القراءة الفاحصة، نقرأ اليوم إصدارًا جديدًا لكاتبة من بلادنا تجدد مشروع القراءة لكتب الرفاعي، هذا المفكر الملهم الذي شغل الساحة الفكرية بكتاباته الفلسفية والفكرية والتجديدية في علم الكلام الجديد. فقد وجدت في كتاب «هكذا قرأت عبدالجبار الرفاعي» للكاتبة رجاء البوعلي مادة مفيدة وقراءة فاحصة تحكي قصة مفكر عاش في أروقة الحوزات العلمية الدينية والجامعات والمعاهد الإسلامية على مدى نصف قرن تقريبا، هو أستاذ ملهم عاش تجارب فكرية متنوعة، وهذا الكتاب يتحدث عن تجربته في رحلة الفكر والفلسفة وعلم الكلام الجديد، فكيف يعيش المفكر ويطرح الفيلسوف الأسئلة الوجودية، وكيف يستثمر عقله في الإجابة عنها بعمق وأصالة وتحرر من قيود الذات، وهذا ما حدا القراءة في فكر الرفاعي -مشروعًا بحد ذاته- بالكاتبة المبدعة رجاء لتُصدر هذا العمل كمشروع حي وناهض للتعريف بعطاءات مفكرًا أبدع في تقديم مشروعا معمقا لبناء حضارة إنسانية وعطاء متحرر لبقاء هذا الإنسان الذي يكافح من أجل وجوده على هذه الأرض الفسيحة.

قبل البدء في الحديث عن الكتاب، لفتتني الفرحة الكبيرة التي أعرب عنها المفكر الرفاعي على موقعه الإلكتروني، إبان صدور هذا الكتاب رغم كثرة ما كتب عنه من رسائل ماجستير ودكتوراه في أكثر من بلد عربي، حيث تُقدر هذه الإصدارات والأطروحات بالعشرات حسب اطلاعي القاصر. فيما جاء كتاب الأديبة رجاء كقراءة جادة انطلقت بها لتحرير أوراق عن أطروحاته حول تحرير الذات الفردية وبناء الفكر الإنساني في سياق علاقة إيمانية متينة تمتد من أعماق الروح الباطنية لتصل ظاهر الممارسات والسلوك للإنسان في مختلف ميادين حياته، وهذا ما استشفته الكاتبة من صفحات كتبه التي عكفت على سبرها، كما نرى من خلال عرضها المقتضب في هذا الكتاب، فقد جاء كتاب الأديبة رجاء في وقت مهم للأجيال الواعدة للتعرف على فكر رجل عملاق يقدم مشروعا إنسانيا هادفا وحضاريا للبشرية جمعاء، ويحدد مسيرة الإنسان على هذه الأرض الفسيحة بأسلوب أدبي حاذق وبليغ، حيث حاولت الكاتبة توظيف عنصر الأدب - بعد أن تخصصت في دراسة الأدب الانجليزي - حيث قرأت العشرات من كتب الأدب العالمي وحاولت بذكاء أن توظف هذا الأدب الخلاق في هذا الكتاب، فجاء مستوعبًا لحياة المفكر العربي العراقي عبدالجبار الرفاعي.

وهنا أعتقد أن عمق القراءة الجادة والتحليل الذكي لمنطلقات الكاتبة هي التي جعلت من الدراسة التي كتبتها مزيجا من الإبداع النقدي والترتب المنهجي، وهذا في مجال البحوث والدراسات يتطلب من القارئ الحصيف ذهنية وقادة وتتبع لمعرفة كل أبعاد النصوص التي يتعرف من خلالها على أطروحات الكاتب والمفكر، ومدى نجاحه في عرض الفكرة نقدا وطرحا والوصول إلى مفهوم الذات من خلال ما يعرضه للقارئ.  ومما استوقفني في هذا الكتاب قراءة عبد الجبار الإنسان والمفكر على حد سواء، والتطرق لسيرته الحياتية المبكرة منذ طفولته الواعدة إلى أن أصبح أستاذًا وواحدا من كبار المفكرين المجددين في العالم الإسلامي والعربي، وقد أشارت الكاتبة للطريق الذي أودى بها لتتعرف على فكر عبدالجبار، عبر كتبه المنشورة في أرجاء المعمورة مثل الدين والظمأ الانطولوجي، والدين الكرامة الإنسانية، والدين والنزعة الإنسانية، وغيرها من الكتب التي يصدرها سنويا. ختامًا أقول: لقد قرأت الكتاب وتعرفت على فكر الرفاعي من خلال قلم الكاتبة الأديبة، وبالرغم أني قارئٌ لنتاجه قديمًا وحديثًا، وهنا أُشير إلى كثافة الكتابات وتعدد الدراسات حول مشروع الرفاعي الفكري على مستوى البحث العلمي والأوراق الفكرية النقدية والثقافية التجديدية، في حين يأتي هذا الكتاب كإضافة للمكتبة العربية والفكرية، وكمشاركة ناهضة تعيد للفكر الإنساني حضوره الباعث لبناء حضارة روحية وإيمانية واقعية واعدة. وهنا نفتخر بصدور دراسة كتبتها أديبة من بلادنا بقلم مشرق وسيال، ولغة مفهومة بعيدة عن التكلف، ومقاربة موضوعية جادة، ومحاولة تؤكد أن القراءة الجادة العميقة هي التي صنعت هذا الكتاب. فجميل أن يقرأ الإنسان ويتابع كل إصدار، ولكن الأجمل أن يقرأ المشروع بنقد وتحليل وتعريف للقارئ وهذا ما قدمته الكاتبة رجاء، ويبقى أملي وطيدا بأن تكتب دراسات أخرى لمفكرين ومبدعين آخرين من العالم العربي.

***

علي المحمد علي

كاتب من المملكة العربية السعودية

في المثقف اليوم