اخترنا لكم
السيد ولد أباه: المساواة وحقوق الاعتراف.. في الجدل الراهن

في كتابهما الحواري الصادر مؤخراً باللغة الإنجليزية تحت عنوان «المساواة.. ماذا تعني؟ ولماذا هي مهمة؟»، يعالج الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي والفيلسوف الأميركي مايكل صاندل معضلةَ التفاوت الاجتماعي في الأزمنة الحاضرة من منظور مزدوج: التراكم الكثيف للثروة وأزمة الاعتراف.
بيكتي اشتهر سابقاً بكتابيه «الرأسمال في القرن الحادي والعشرين» و«الرأسمال والأيديولوجيا» اللذين ولَّدا ردودَ فعل واسعة. وفي الكتابين ينطلق بيكتي من رؤية اشتراكية اجتماعية، وإن كان ينتقد بشدة التجربةَ الماركسيةَ السابقةَ بكل تأثيراتها السياسية والاقتصادية.
وفي الكتاب الجديد، يرى بيكتي أن التيار الاشتراكي، وإن كان قد انهار كلياً في أوروبا منذ بعض الوقت، إلا أنه حقق مكاسبَ باقيةً، من بينها التراجع النوعي لنسبة التفاوت الاجتماعي في كل بلدان القارة العجوز، إلى حد أن قطاعاتٍ حيويةً مثل الصحة والتعليم خرجت عملياً مِن منطق السوق، دون أن ينهار الاقتصاد، بل إن الإصلاحات الاجتماعية كانت دعامةً قويةً للنمو والثروة. إنها التجربة التي يمكن تمديدها إلى قطاعات أخرى، بما يقتضي تجاوزَ الحوار العقيم حول أولوية القطاع العام أوالخاص، والانطلاق من الحاجيات الموضوعية للسكان وتحديد الطرف الأجدر بتحقيقها. وفي الاقتصاد الجديد، نلاحظ أن إنتاج البضائع المادية تراجع جذرياً مقابل الخدمات التي أضحت محورَ المنظومة الاقتصادية، بما من شأنه تعزيز دور القطاع العام وتكريس الارتباط العضوي بين المطالب الاجتماعية والديناميكية الإنتاجية.
المفارقة الكبرى هي أن التيارات الاشتراكية اعتمدت منذ تسعينيات القرن الماضي مبدأَ السوق الحرة والخصخصة الشاملة، فكانت النتيجة هي تدمير القاعدة الاقتصادية للمدن المتوسطة، مما انجرَّت عنه مشكلاتٌ اجتماعيةٌ حادةٌ كانت في مصلحة الأحزاب اليمينية الجديدة الصاعدة حالياً في جُلّ الدول الغربية. لقد انقلبت المعادلةُ الأيديولوجية التقليدية، فأصبحت التشكيلات اليسارية تدافع عن الأطروحة الليبرالية الكلاسيكية، في الوقت الذي تتبنى التنظيمات الشعبوية الدفاع عن مصالح العمال والطبقات الوسطى ولو بشعارات واهية مثل محاربة الهجرة وتحصين الهوية القومية. في حين أن المطلوب اليوم هو الرجوع إلى خطاب المساواة الاجتماعية في مواجهة اختلالات الرأسمالية المعولمة.
وبالنسبة لبيكتي، لا يمكن تصور برامج اجتماعية ناجعة دون التحالف مع بلدان الجنوب التي تقود اليوم خطابَ العدالة من منظور عالمي يتجاوز الخريطة الطبقية المحلية. ومن هنا العودة إلى أطروحة ماركس القديمة حول ارتباط الاستغلال الطبقي بالتفاوت على المستوى العلاقات الدولية.
لا تتعارض مقاربة صاندل مع ملاحظات بيكتي حول أزمة الاشتراكية وصعود اليمين المحافظ، لكنه ينطلق من اعتبارات اجتماعية قيمية تتناسب مع فلسفته في العدالة التي بلورها في عدة أعمال، من آخرها كتابه «استبدادية الاستحقاق» الصادر سنة 2020.
لا ينظر صاندل إلى التفاوت الاجتماعي من حيث هو نتيجة من نتائج الغبن الاقتصادي أو سوء توزيع الثروة، بل يعتبره مظهراً لأعراض تعاني منها البلدان الصناعية الحديثة، مثل الإذلال وهشاشة رابطة الاعتراف وطغيان الشعور بالتهميش والإقصاء. ومن هنا ضرورة بناء نزعة مواطنة مدنية إدماجية تكرس سياسة اعتراف وكرامة تستفيد منها القاعدة الاجتماعية العريضة وليس النخب المالية والإدارية المهيمنة وحدها.
ولئن كان صاندل يوافق بيكتي على أن اليسار الذي خلف الأنظمة النيوليبرالية التي حكمت في الولايات المتحدة وبريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي لم يغير نوعياً من جوهر السياسات الاقتصادية، إلا أنه يفسر هذه الظاهرة بعوامل سياسية فكرية تكمن في البحث ضِمن آليات السوق عن أدوات محايدة تجنب النقاش المعقد حول معايير الخير المشترك وقيم العيش الجماعي في سياقات متعددة ومتنوعة لا يمكن أن تتفق حول سقف مرجعي محدد.
في هذا الباب، ليس المشكل في انكماش القطاع العمومي ذاته، بل في تراجع النظم الإدماجية الاجتماعية التي هي المؤسسات الحاضنة للأفراد والضامنة لكرامتهم وحقوقهم، بما يعني بالنسبة لصاندل أن الفردية الاستهلاكية ليست خطراً على المساواة من المنظور التوزيعي وحده، بل هي أيضاً خطر على منطق التضامن الاجتماعي.
في هذا الكتاب المختصر، نقف عند جوانب هامة من الحوار الفكري الأيديولوجي الدائر راهناً في الغرب حول المساواة من حيث هي مقوم مركزي من مقومات الحداثة، في ما وراء الصراع الدائر حول المقاربتين الطبقية الاقتصادية من جهة والحقوقية الاجتماعية من جهة أخرى.
لقد ركزت فلسفات العدالة في العقود الأخيرة على إعادة بناء نظرية الحقوق السياسية والاقتصادية في السياق الليبرالي، بيد أن تحدي العولمة الرأسمالية فرض على الفكر الغربي الراهن العودة إلى مسألة المساواة في علاقتها المعقدة بالحرية الفردية والتضامن المجتمعي.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
31 أغسطس 2025 23:45