اخترنا لكم

السيد ولد أباه: الذكاء الاصطناعي ومستقبل النظام الدولي

في مقال بصحيفة «لفيغارو» الباريسية، يذهب وزير التربية الفرنسي الأسبق والفيلسوف المعروف «ليك فري» إلى القول بأن مَن يسيطر على الذكاء الاصطناعي مستقبلاً سيُهيمن حتماً على العالم. وفي مقاله، يقف «فري» عند طبيعة الثورة الكبرى التي تعرف الإنسانيةُ حالياً بدايتَها، مع البوادر الأولى للذكاء الاصطناعي الذي سيكون أكثر خطورةً وتأثيراً من الثورتين الصناعيتين السابقتين اللتين غّيرتَا مجرى الوضع الإنساني: ثورة البخار وثورة الكهرباء.

وتتعلق ثورة الذكاء الاصطناعي بمحددات كانت تعتبر من خصوصيات البشر الوجودية، مثل العقل واللغة، وقد تجاوزت طاقتُها القدراتِ البشريةَ في مجالات حيوية مثل القانون والطب والتحرير اللغوي، وغدت تهدد بالفعل طبيعةَ المنظومة التربوية التقليدية وسوق العمل. الجديدُ في الأمر أن تقنيات الذكاء الاصطناعي دخلت في الميدان العسكري، وفي حين لا تزال الولايات المتحدة تسيطر على قرابة 70 بالمائة من القدرات الحسابية العالمية، فإن التنافس الصيني معها أصبح بارزاً، كما أن روسيا دخلت في السباق، بينما أوروبا لا تحتل سوى 4 بالمائة من الكفاءة الحسابية الدولية. وبطبيعة الحال، فإن موجة الذكاء الاصطناعي تطرح تحديات أخلاقية وقانونية كبرى، هي اليوم مدار جدل واسع في الديمقراطيات الغربية، لكن الخطر قائم بالفعل على ريادة الغرب في هذه التقنيات الجديدة، التي هي في طور تغيير الوضع الإنساني جذرياً.

وفي دراسة أخيرة للباحثة في الشؤون الاستراتيجية «دورا بابادوبولو» حول الذكاء الاصطناعي من حيث هو «أيديولوجيا تمكينية» لدى الصين، ترى الكاتبةُ أن السلطات الصينية الحالية لا ترى في تقنيات الذكاء الاصطناعي مجرد اكتشافات تكنولوجية، بل تعتبرها أداةً أيديولوجية ونموذجَ حكم بديلاً عن النظام الليبرالي، من حيث التوجيه المركزي وسيطرة الدولة. والغرض من هذه المنظومة التقنية في هذا الباب هو حفظ النظام الاجتماعي وتكثيف الرقابة العامة، والدخول في حرب تقنية باردة مع الغرب. وقد حققت الصينُ بالفعل مكاسبَ باهرةً في ميدان الذكاء الاصطناعي، ووضعت استراتيجياتٍ طموحةً تهدف إلى الريادة العالمية في هذا المجال الحيوي سنة 2030، كما بلورت خطةً لتقاسم هذه «الثروة العمومية العالمية» مع كتلة الجنوب الشامل، ساعيةً إلى إحداث منظومة تقنية حسابية منفصلة كلياً عن المركز الغربي.

الإدارة الأميركية الجديدة تنظر بجدية إلى هذا التحدي الصيني، وقد عبّر الرئيس ترامب بوضوح عن عزمه دفع الريادة الأميركية في تقنيات الذكاء الاصطناعي، من خلال الاستثمار الواسع ورفع القيود المفروضة على الإبداع والبحث في هذا الميدان، فأصدر فور تسلّمه السلطةَ في يناير 2025 أمراً تنفيذياً في هذا الغرض. والمعروف أن رموز التقنيات الجديدة في الولايات المتحدة دعّموا الرئيسَ ترامب في الانتخابات الأخيرة، ورأوا فيه الزعيمَ الذي يمكن أن يقود المواجهةَ العالميةَ الراهنةَ حول الذكاء الاصطناعي. ومن هؤلاء الرموز بيتر ثيل الذي تحدث كثيراً في الشهور الأخيرة حول التحديات المتولدة عن ثورة الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً ما يتعلق منها بالسيطرة على مراكز القوة والتأثير في العالم.

بيد أن ثيل يعتبر أن الرهان الأساسي يتمثل في أي اتجاه معياري ستوظَّف وفقَه تقنياتُ الذكاء الاصطناعي التي يمكن أن تكون أداةً للاستبداد والتسلط وكبت الحريات الفردية والجماعية، كما يمكن أن تكون دعامةً للتحرر والرفاهية الذاتية.

وفي كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «الذكاء الاصطناعي: الاستبدال الكبير أو التكامل؟»، يدعو «ليك فري» إلى تنزيل هذه الإشكالات الاستراتيجية والحضارية في صلب التفكير الفلسفي المعمق حول مفاهيم الإبداع والاستقلالية والوعي والمعنى، باعتبار أن هذا التحول التكنولوجي الكبير يستهدف الإنسانَ في هويته وعالمه الرمزي والدلالي. والسؤال الحيوي هنا هو: هل تستطيع تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطورها المتسارع أن تصل إلى حصن الوعي الذاتي الذي هو مجال التخيل والخلق والشعور، ومنبع الإشكالات الميتافيزيقية الوجودية؟

يرى «فري» أن التقنيات الرقمية لا يمكنها أن تعوض الميزات الأنتروبولوجية الجوهرية للإنسان، وإن كانت قادرة على إحداث تغيير حاسم على نمط وجوده وثقافته وتجاربه المعيشة. إنها من هذا المنظور المحطة الأخيرة مما أطلق عليه الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك «الإنتربو تقنية»، ويعني بها الآليات المخترعة التي تسمح للإنسان بأن يتشكّل ويعيد تغييرَ نفسه.

ومن هذه الأشكال الأنتروبولوجية التقنية الطقوس الدينية والممارسات الرياضية والمؤسسات التربوية والثقافية، وهي اليوم تأخذ صورةَ التقنيات الرقمية الجديدة التي قضت على المسافة التقليدية بين الإنسان والآلة، وفتحت آفاقاً غير مسبوقة لسباق الهيمنة والسيطرة في الميدان الاستراتيجي العالمي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

2 نوفمبر 2025 23:42

في المثقف اليوم