شهادات ومذكرات

عدنان حسين أحمد: موجات مرتدة.. شيوعيون في قفص التدجين

يمتد الجزء الثالث والأخير من السيرة الذاتية للروائي زهير الجزائري من صيف عام 1972 وينتهي بتاريخ 22 / 5 / 1979. حيث يعود الراوية إلى العراق مع زوجته سعاد وابنهما نصير بمحض إرادته. لم يكن زهير شيوعيًا بالمعنى الدقيق للكلمة وإنما كان ماركسيًا يؤمن بالفكر اليساري ويثق بطروحاته الفكرية. ثمة هاجس بدأ ينتاب الراوية وهو ينظر إلى الطلائع وهم يضربون الأرض بأقدامهم بأنّ "الفاشية قادمة مع إحساس عميق بالهزيمة أو اللاجدوى"(4). تحضر في بعض مقاطع الجزء الثالث مناجيات قليلة وأحاديث هامسة مع النفس من بينها "الجو مهيأ لتدجيني.. وجئت إلى البلد طوعًا وبرغبتي.. وقد تخليتُ عن حماقاتي السابقة.. حين أسكر، يندسني المحتج في داخلي فأنحّيه جانبًا وآمر نفسي بشماتة: خليك مع الساكتين!"(ص، 4).

لم يكن العمل في المؤسسات الإعلامية البعثية سهلًا على أصعدة كثيرة؛ فالشيوعي أو الماركسي أو المستقل يعاني من رقابة دائمة لأنّ البعثيين يحصون عليهم أنفاسهم ويعرفون عنهم كل صغيرة وكبيرة، ويعتبرون وجودهم مؤقتًا لكنهم يحتاجونهم حاجة ماسة لأنّ المؤسسات الثقافية البعثية برمتها لا تستطيع أن تتواصل وتعمل بجودة فائقة من دون هؤلاء الكُتّاب والمثقفين العراقيين الذين "لم يبتلعوا حبّاية البعث" بتعبير الجزائري.

كانت أجهزة السلطة في العراق تعرف جيدًا بتذمر الشيوعيين والماركسيين من العمل في دوائر الدولة ومؤسساتها الثقافية والفنية على وجه التحديد. وقد وصل هذا التذمر في بعض الأحيان إلى الإحساس بالقطيعة حيث يقول الجزائري: "أبدًا لم نشعر أنّ البلد بلدنا عن حق"(ص، 6) وكأنهم غرباء عن بلدهم ومحيطهم الثقافي في الوقت ذاته.

غمغمة وحوش مُحاصَرة

أشرنا سلفًا إلى الجزائري قد كتب في مختلف الأجناس الأدبية والفنية كالسينما والمسرح والنقد التشكيلي والآثار والأمكنة لكنه كان يتفادى الجد الكامن في السياسة ويلجأ إلى التمويه والتعمية اللغوية حيث يقول: "تسلحنا بالكلمات نلغّزها ونلعب بها لنحايل السلطة التي تريد أن تطوّعنا... نغمغم مثل وحوش محاصرة ونبدأ بحملة تمزيق الورق، بما في ذلك المقالات التي كتبناها"(ص، 6).

من يعرف حياة الجزائري من كثب يدرك تمامًا مزاجه المتقلب الذي لم يستقر على جنس إبداعي محدد فقد كتب الشعر مبكرًا لكنه أدرك على عجل وتساءل مع نفسه: ما الذي سأضيفهُ للشعر العراقي وأمامي عبدالأمير الحصيري والجواهري وقبلهما المتنبي الكبير؛ مالئ الدنيا وشاغل الناس؟ فحينما فكّر بكتابة قصيدة تحت عنوان "مقتل شيوعي في شارع مزدحم" أخفق أو شعر بعدم جدوى الكتابة الشعرية في حضرة الشعراء الكبار. لذلك اتجه إلى المطالعة وقرأ كتبًا لدستويفسكي وكافكا ومالرو وسرفانتس ونيرودا وغائب طعمة فرمان وما سواها من أعمال أدبية أثْرت الذائقة الإنسانية في مختلف أرجاء العالم.

غالبية الملحوظات التي يجترحها الجزائري في هذه السيرة يجب أن تؤخذ على محمل الجد والاعتبار لأنها ناجمة عن تمحيص لفكرة جريئة أو مفهوم عميق كأن يقول: "أرى أنّ الحزب يبالغ هذه الأيام في التأكيد على ماضيه.. إنّ الحزب هو حزب الحاضر أو المستقبل"(ص، 10) وهذا الأمر ينسحب على شريحة واسعة من المجتمع العراقي تستدعي الماضي البعيد وتعيش على خرافاته وأساطيره بينما ينغمس العالم المتقدم بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة المُذهلة.

يفاجئنا الأب علي هادي الجزائري؛ والد زهير، بين أوانٍ وآخر بإطلالاته العصرية التي تنتمي إلى الحاضر أو المستقبل أحيانًا. فقد أشرنا سلفًا إلى أنه يعزف على آلة العود، ويترنم بأغاني محمد عبدالوهاب، ويُدرّس المسرح، ويتفادى اللقاء بالمُعمّمين، ويرتدي زيًا أوروبيًا. وها هو الآن يفاجئ ولدهُ وفلذة كبده بزجاجة فيها ما ينعش الروح والجسد. وتبدو إطلالات هذا الأب المثالي المتحضر أشبه بالواحة الجميلة التي تُريح البصر.

لم تكن حياة الجزائري الوظيفية مستقرة. فتارة يُضايقهُ رئيس التحرير، وتارة ينحّيه من رئاسة القسم، وتارة ثالثة يُعيدهُ إليها. كما أنّ العمل الصحفي يرهقهُ، خاصة إذا كان في مؤسسة بعثية، فلا غرابة أن يقرأ قصص كافكا ورواياته التي تضع أبطالها في موقف المتهَم دائمًا أمام قضاة قساة لا يعرفون الرحمة. كان الجزائري يتمنى في بعض الأحيان أن يتخلص من العمل الصحفي الذي يلاحقه حتى في سريره وينغمس بقراءة التراث القديم ويستمتع بكتب التصوّف لأنّ "لغتهم حادّة وممتلئة بالممكنات"(ص،13).

يسمّي الجزائري الأشياء بمسمياتها ولا يخشى في الحق لومة لائم لذلك يكتب "اليوميات" التي تتطلب الصدق والصراحة والجرأة. وثمة أمثلة كثيرة في هذه السيرة تشير بشجاعة ووضوح إلى العديد من الشخصيات التي لم ينسجم معها أو لم يرتح لها في الكتابة أو في حياتها اليومية العابرة.

مُجاورة المنائر الذهبية

تبدو هذه السيرة جامعة مانعة تشتمل على تاريخ العراق وأحداثه منذ ستينات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر وربما يمتد بعضها إلى أجداده الذين الذين قدِموا من الجزيرة العربية وأبهرتهم الأهوار بجمالها الخلاب فسكنوا فيها ردحًا من الزمن قبل أن ينتقلوا إلى مدينة النجف ويجاوروا المنائر الذهبية التي تلتمع آناء الليل وأطراف النهار.

ثمة يوميات تتحدث عن سجن "قصر النهاية"، ويوميات تتحدث عن جرائم "أبو طبر الذي روّع الناس الآمنين ببغداد، ويوميات ثالثة تتحدث عن حرب تشرين وغيرها من الحروب العربية - الإسرائيلية إضافة إلى الوقائع والأحداث التي لم يكتبها الجزائري بروح المؤرخ ولغته الجافة وإنما كتبها بأسلوب أدبي يجمع بين القصة والصحافة كما قال له أحد رؤساء التحرير ببيروت ذات يوم. يركز الجزائري في هذه السيرة على سنوات ما كان يسمّى بـ "الجبهة الوطنية التقدمية" التي ضمّت الحزب الشيوعي العراقي والحزب الثوري الكوردستاني وقسم مؤيد للحكومة من الحزب الديمقراطي الكوردستاني ومستقلين إلى جانب حزب البعث المهيمن على كل مفاصل السلطة في العراق. واستمرت الجبهة منذ سنة 1973 وحتى أوائل سنة 1979م لتنتهي نهاية كارثية ما تزال مرارتها تحت الألسن الشريفة. عاش الراوي قريبًا من الحزب تارة، وبعيدًا عنه تارة أخرى وحينما يشعر بالضيق والاختناق يلتجئ إلى القراءة أو يلوذ ببعض الأصدقاء الخُلّص الذي يعاقرون سحر الخمرة وحلاوة النبيذ المعتق.

ينتبه الجزائري منذ وقت مبكر إلى الأشياء الإبداعية الجميلة مثل الموسيقى التي سوف يدمن عليها، والفن التشكيلي الذي يتابعه بحماس، والباليه؛ هذا الفن الساحر والعظيم الذي يتحول فيه جسد الراقص أو الراقصة إلى معزوفة تخلب الألباب. كما تشكّل السينما هاجسًا آخر للجزائري ويبدو من خلال هذه السيرة الذاتية أنه شاهد الكثير من الأفلام العربية والأجنبية التي أثْرت خطابه البصري وحفّزت خياله الذي يمتحّ من الأحداث الواقعية والغرائبية في آنٍ معًا.

ترويع الناس الآمنين1488 adnan

يلفت الجزائري اهتمامنا إلى الفظائع التي ارتكبها "أبو طبر" ببغداد وروّعت الناس الآمنين إلى الدرجة التي أصبحت فيها كابوسًا جماعيًا صنعه البعثيون بامتياز وأربكوا العراق من أقصاه إلى أدناه.

ما إن تندلع حرب من الحروب العربية - الإسرائيلية حتى تتحفّز شهية الصحفي عند الجزائري للمجازفة والذهاب إلى جبهات القتال بينما تعترض زوجته سعاد على هذا الفعل الذي تعتقده جنونيًا ولا تجد حرجًا في إثارة سؤال منطقي مفاده: "ماذا ستفعل أنت الفرد النحيف بين الجيوش الكبيرة ودباباتها وطائراتها؟"(ص،24).

ليس غريبًا أن يُفْصَل الجزائري من مجلة "الإذاعة والتلفزيون" التي تحمّل فيها العمل على مضض لكنه وجد فرصة أخرى في صحيفة يومية يمحضها حُبًا من نوع خاص وهي "طريق الشعب" التي تحتضن كُتابًا من الطراز الرفيع، وسوف يندمج معهم وكأنه يعيش بين أفراد أسرته. كان الجزائري مُعجبًا بالعديد من الوجوه الثقافية التي تعمل في الصحيفة من بينهم سعدي يوسف ويوسف الصائغ وصادق الصائغ وفايق بطّي وسلوى زكّو وفالح عبد الجبار ورشدي العامل وآخرين. لقد تحولت علاقته بالعاملين في الصحيفة إلى علاقة صداقة حميمة، وفكر عميق، وتوافق روحي في أشياء كثيرة فعندما التحق بهم الشاعر مخلص خليل والناقدة فاطمة المحسن توزّعوا على أقسام الصحيفة التي تراهن على العمّال والفلاحين والطبقات المسحوقة من المجتمع العراقي ولكنّ ثلاثهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى المتعلمة ولم يرَ بعضهم معملًا أو مزرعة أو مدينة فقيرة مثل "الثورة" وما سواها من مدن مماثلة في العوز والحرمان.

تصيّد أخطاء البعثيين

لم تكن "طريق الشعب" مُهادنة للسلطة البعثية، بل أنّ المسؤولين البعثيين كانوا يتذمرون من انتقاد كُتّاب "طريق الشعب" حتى قال أحدهم ذات مرة لفخري كريم، رئيس التحرير: "أنتم تتصيدون أخطاءنا وتتجنبون ذكر الإنجازات"(ص،26). يشيد الجزائري بالشاعر سعدي يوسف ويحترمه لأسباب كثيرة أكثر من غيره. والمعروف أن سعدي يوسف حاولَ أن يثبّت تقاليد مدرسة عراقية تعتمد على "الواقع المرئي والمكان المحدّد" وأعتبرها قاعدة انطلاق للحساسية الشعرية. وذهب بإعجابه إلى أبعد من ذلك حينما قال: عنه بما معناه أنه كان يعرف المُرسل الذي بعث القصيدة سوف يصير شاعرًا حتى ولو من بيت واحد! وهذا الحدس العميق متأتٍ من حساسيته العالية وخبرته الطويلة في كتابة الشعر وتذوّق الجيد منه. ويضيف الجزائري بأنّ سعدي يوسف كان أكثرهم ريبة من الجبهة مع البعث على العكس من فالح عبد الجبار الذي كان مطمئنًا إلى ذلك التحالف المريب. والغريب أنّ طارق عزيز قد انتبه إلى خطورة سعدي يوسف حينما قال في واحد من اجتماعات الجبهة ردًا على زكي خيري: "نعم، أنتم تقيّمون ايجابياتنا في المقال الافتتاحي لكنكم تشككون بنا في القصائد المُلغّمة"!(ص، 29). يعتبر الجزائري الشاعر يوسف الصائغ أكثر حيوية وتنوعًا من سعدي يوسف في ذلك الوقت فهو شاعر وروائي ورسّام وكاتب عمود صحفي. ويرى بأنه أكثر انسجامًا مع يوسف الصايغ لكنه يحترم سعدي يوسف ويصغي له باهتمام في المرات القليلة التي يتحدث فيها بصوت خافت!

ثمة إشادة كبيرة بالشاعر رشدي العامل الذي كان يكتب مقاله السياسي اليومي بنفس واحد ولا يرفع رأسه إلّا عندما تُوخزه دودة الكحول فيأخذه عبد المجيد الونداوي إلى البار ليمارس طقسه اليومي المعتاد.

يثني الراوية على كتابات فالح عبد الجبار عن الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا. وقد حذّر من صعود الساحر وسيطرته على الوعي الجمعي. وقد رأى الراوية وفالح أنّ هذا الساحر سوف ينوّم شعبًا باستعمال القسوة والعنف ويلاحقهم في المنافي البعيدة.

يتكشف الولع الموسيقي للجزائري هذا الجزء من السيرة، فقد جاءه ذات مرة شخص أرمني وعرض عليه عددًا كبيرًا من الأسطوانات التي جمعها طوال حياته من بينها أسطوانات لأنريكو ماسياس، شارل أزنافور، فرانك سيناترا، بتولا كلارك وفيروز وآخرين وطلب منه أن يأخذها بأي ثمن أو مجانًا إذا لم تكن لديه نقود فهو على أبواب سفر ولم يكن يدري بأن الجزائري سوف يسافر عن قريب. ينتقد الجزائري سكنة البتاويين من المسيحيين والكورد الذين يسكنون في بيوت صغيرة تغص بالعوائل الكبيرة التي تضيع فيها خصوصية الأبوين وهما يمارسان الحُب وسط أعين الفتيات المتربصة.

يحتشد هذا الجزء من السيرة بقصص تمتد من انهيار المقاومة الكوردية إلى الفنان التشكيلي ضياء العزاوي الذي كان جنديًا آنذاك، مرورًا بمدينة أربيل "أربائيلو" التي بناها عبيد عراة الظهور ليجعلوا منها مدينة الآلهة الأربعة. وانتهاءً بالوقوف عند  الضابط طه الشكرجي الذي كان قاسيًا مع الكورد ويكنُّ لهم كراهية عجيبة وغير مبررة.

عادات الشعوب المتفتحة

يسافر الجزائري إلى بوخارست ويندهش للصراع الغريب بين كتل الإسمنت وخضرة الغابات، ويلفت انتباهه منظر شاب يقبل فتاة في موقف الباص، وسوف تتكرر هذه المشاهد غير مرة لتترسخ في ذهنه عادات الشعوب المتفتحة وتقاليدهم الحضارية التي لا تحدّ من الحريات الشخصية والعامة.

لم يخبئ الجزائري معاناته من ضيق ذات اليد حيث يقول بصراحة تامة " صحيح أني تعوّدتُ الإفلاس والديون ولكن مواجهة دائن تخلّف موعده ما زال يحرجني كثيرًا"(ص، 44).

كان الجزائري حريصًا على وقته منذ أيام صباه وشبابه. ففي أواخر سنة 1974 كان يضيق ذرعًا ببعض المعارف حيث يقول عنهم: "الطيبة والأدب الجمّ الذي أُلاقي به مثل هؤلاء الناس سيجعل حياتي مثل فندق أو مَضيف بلا حُرمة. إنهم يسرقون وقتي وجدّيتي وأعصابي. سأكون أكثرب حزمًا في المستقبل"(ص. ن). لا يقتصر تبديد الوقت عند الجزائري على فوضى الزيارات التي تقتحمه من دون سابق إنذار وإنما تمتدّ إلى الامتناع عن القراءات العشوائية ووضع حدٍ لها حيث يصرّح بالفم الملآن:"عليّ أن أرتب قراءاتي. وقتي ضيّق لن أبددهُ بالتجريب بروايات عراقية وعربية لا تُغني تجربتي بالأفكار العمودية"(ص، 46).

لم يفرّط الجزائري بأية فكرة جيدة تخطر بباله وسرعان ما يفكر بتحويلها إلى قصة قصيرة بينما ينهمك على الدوام بكتابة نص روائي. ففي الشهر الأخير من سنة 1975 وضع اللمسات الأخيرة على رواية "المغارة والسهل" وهي سيرة ذاتية وسياسية لفترة حاسمة من حركة المقاومة. وغالبًا ما يُصدر أحكامه النقدية القريبة من الواقع بأعماله فقد وصف هذه الرواية من الناحية الفنية بالكلاسيكية لكن عذره الوحيد أنها رواية منبثقة من داخل الحركة.

تتداخل الأحداث الخاصة بالعامة، وطالما أنّ السيرة ذاتية في جوهرها فلابد أن يتطرق الكائن السيري إلى حياته الأسرية أو العاطفية، ولا بدّ أن يكون صريحًا كما يريد منظّر السيرة الذاتية الشهير فيليب لوجون الذي يرفض حتى استعمال الأحرف الأولى من أسماء الشخصيات التي ترد في السيرة الذاتية كما فعل الجزائري مثل (س. ن) و (ع، أ) وشخصيات أخر لم يرد الراوي أن يكشفها ويعرّيها لسبب من الأسباب. ففي هذا الجزء من السيرة يعترف الجزائري بالشِجار الذي اندلع بينه وبين زوجته سعاد لأنه تأخر بعد الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل ويعزو سبب هذا الشجار إلى أنها تريد أن تتحكم بحياته الشخصية ويتمنى لو يفترق عنها بعض الوقت حتى يرمم ما تهشّم بينهما من علاقة حميمة. ومما زاد الطين بلّة أنه نسي موعد الاجتماع الحزبي ذات مرة فعزلوه لكننا سوف نكتشف بأنه ورث النسيان من عائلته وأنّ لديه مشكلة حقيقية في الأرقام والتواريخ التي يحتاجها في العادة غالبية الكُتّاب الصحفيين. ثم يمضي في اعتراف أكثر جرأة حينما يكشف بعض خصاله الشخصية ويقول: "لستُ جسورًا ولا متلهفًا لرغباتي، إلّا أنني أميل إلى تكوين علاقات خارج حياتي الزوجية"(ص، 47). أمّا اعتقاده بأنّ العلاقات الطارئة تجدد علاقته مع سعاد فهذا تبرير غير معقول ولا يختلف عن التبريرات الضعيفة التي قدّمها في هذا السياق. والصحيح أنّ قلب الرجل قد يتسع لأكثر من امرأة في بعض الأحيان.

يمحض الجزائري بعض أصدقائه حُبًا من نوع خاص مثل عبدالرحمن طهمازي، وسهيل سامي نادر ومنعم حسن ويتعلم منهم هدوء العاطفة غير أنّ أقربهم إلى قلبه هو سهيل سامي حيث يقول عنه:"عندما يأتينا هو وزوجته أشعر بأمان كأنني على وشك النوم في حضن والدي"(ص، 53).1487 adnan

تُحف ومعالم أثرية

يتجلى الجزائري حينما يكتب عن المدن العربية والأوروبية مثل بيروت ودمشف وطشقند وبراغ وبوخارست وموسكو ولعل مشاهداته الدقيقة وقدرته على التقاط مكامن الجمال سواء في الطبيعة العمرانية أو السلوك البشري هي التي تجذب القارئ وتجعله يندمج في هذا الجمال ويتماهى فيه. ففي أثناء تواجده في العاصمة الأوزبكستانية طشقند لا يكتفي بالحديث عن ظاهرة الهزّات الأرضية التي اعتادها الناس في تلك المضارب وإنما يأخذنا مباشرة إلى "الفتاة الأوزبكية التي حملت معها في البداية تمنّع الشرق، ثم دخلت في غرفتي. كنّا عاريين ونتلوى ببطء حين حدثت الهزّة"(ص، 56). وهذا الأمر ينسحب إلى مدينة موسكو وما تنطوي عليه من تحف ومعالم أثرية مثل ضريح لينين وبيت تولستوي، ومحطات الأندرغراوند وما سواها من أيقونات جمالية تسر الناظرين.

تحتشد هذه السيرة الذاتية بالكثير من المعلومات المهمة عن شخصيات أدبية وفنية على وجه التحديد مثل الروائي غائب طعمة فرمان الذي حوّل المخرج قاسم محمد روايته المعروفة "النخلة والجيران" إلى عمل مسرحي لكنها لم تُعجب فرمان الذي خرج من العرض غاضبًا ومستاءً إلى أبعد الحدود. ومع كل شخصية ثقافية أو فنية يُتحفنا الجزائري بأسماء محاذية لهم. فمن خلال فرمان نتعرف إلى ندمانه أمثال جلال الماشطة، وسعود الناصري، وسلام مسافر الذين كانوا يتحرّجون من إيصاله إلى البيت بسبب مزاج زوجته العكر.

يعود بنا الجزائري إلى أحداث "تل الزعتر" وأبرزها انهيار ملجأ يحمل الاسم ذاته وراح ضحيته 500 مواطن من سكّان الحي دفنوا داخل الملجأ من دون أن يتحرّك الضمير العالمي المتبلّد.

ثمة اعتراف مهم يدلي به الجزائري غير مرة بأنه لا يعرف أنواع الأزهار أو الأسماك أو التمور، ويجهل أسماء النجوم والكواكب وجغرافية المدن. ويتساءل مع نفسه: "لا أعرف سببًا لذلك، هل لأنّ صمغ ذاكرتي فاسد؟ أم أنّ حواسي صمّاء؟ "(ص، 64). وحينما تُعييه الإجابة يُلقي اللوم على والدته فيقول: "ورثتُ الإهمال من أمي التي تعوّدت ألّا ترى أو تصغي إلّا إلى هواجسها الذاتية"(ص.ن).

يحدثنا الجزائري عن حالة الحُب الجديدة التي عاشها مع وداد وما سببتهُ من صراع نفسي لكليهما، فهي تحب الجزائري بعمق لكنها تشعر بتأنيب الضمير كلما دعاها إلى المنزل ووضعها وجهًا لوجه أمام زوجته سعاد التي ترحب بها وتأخذها بالأحضان ومع ذلك فإنّ الجزائري يستنتج بأنّ علاقته بوداد تزيد من حبّهِ لسعاد! وهذا تبرير ثانٍ لا يجانب الصواب أيضًا.

الشيوعيون رهائن مُعدة للذبح

بدأ الحلفاء أو البعثيون يعدمون الرفاق الشيوعيين بالجملة الأمر الذي يؤكد ريبة الشاعر سعدي يوسف بهم وحدسه المسبق الذي لا يخيب في كثير من الأحيان. يقول الراوية: "لا أريد أن أصبح خروفًا في قطيع يسير وراء راعيه"(ص، 70). مقالة "الراصد" التي تقطّر سُمًا وتؤلب النظام العراقي على الإيغال في جرائمة حيث أعدموا خمسة عشرًا شيوعيًا شنقًا حتى الموت أو رميًا بالرصاص، فالبعثيون لا يريدون حلفاء وإنما يحتاجون إلى خدم في مضايفهم. لقد كانت الجبهة كمينًا للشيوعيين، وكانوا يضربونهم وهم في طريقهم إلى الموت حتى وصل اليأس بزوجة الراوية أن تدعي بصوت مهموس:"يارب اهدمها على رؤوسنا ورؤوسهم معًا"(ص، 79). ثم تفاقمت حملات الملاحقة، والاغتصاب، وغرف الغاز، والدهس، وحبوب الهلوسة التي تسبب الجنون المؤقت. وقد دُهس زهير بسيارة كسرت ساقه وتلقى العلاج في مستشفى الطوارئ بينما كان الحزب الشيوعي يعتمد على إرادة الأفراد العُزّل وعلى مساعدة تأتيه من حدث خارجي. والأنكى من ذلك فقد اكتشف الجزائري بأنه ممنوع من السفر فشعر بالغُبن والاستياء لأنّ السفر ميسّر للجميع ومتعذّر عليه، فلا غرابة أن يشعر بأنّ الشيوعيين باقون هنا "كرهائن مُعدة للذبح"(ص، 86). لقد اكتظت سجون البعث بالشيوعيين الذين كانوا يتعرضون للتعذيب بشكل ممنهج ويكفي أن نذكر ما تعرضت له الكاتبة فاطمة المحسن وزوجها عبدالحسين زنكنة ومئات الشيوعيين الآخرين سواء في بغداد أو المحافظات العراقية الأخرى. وفي يوم 6 / 4 / 1979 أغلق البعثيون صحيفة "طريق الشعب" لمدة شهر واحد لكن عبدالرزاق الصافي طلب من موظفي الصحيفة أن يهيئوا أنفسهم لإصدار مجلة "الفكر الجديد" التي سوف يكتب فيها الجزائري باسمه الصريح مقالًا عن "توماس مان والنازية" ليثير غضبهم وحفيظتهم. وحينما كثُرت حوله دبابير البعث أخذه القاص سعيد فرحان إلى بيتهم في مدينة الثورة ليسجّل موقفًا شهمًا لن ينساه الراوية مدى حياته.

ينهي الجزائري سيرته الذاتية بالسفر إلى الأردن بواسطة جواز سفر مزوّر أحضره نسيبه السيد كاظم شبّر وأخبره أن ينسى زهير منذ الآن اسمه الحقيقي زهير ويحمل اسمًا جديدًا وهو ناظم كمال، تاجر أُردني، وعوّد نفسه على اللهجة الفلسطينية وأندسّ بين ثلة فلسطينيين وأردنيين داخل السيارة، وتصنّع النوم.

لا بدّ لقارئ هذه السيرة الذاتية أن ينتبه إلى التداخلات الزمنية لأنّ هذه السيرة لا تعتمد نسقًا خطيًا متصاعدًا ولكنها تغطي مجمل الوقائع والأحداث التي وقعت منذ الستينات وحتى يوم الناس هذا. ولعل الجزائري قد أفلح في كل شيء تقريبًا كما كان صادقًا وصريحًا في غالبية المواقف التي تناولها إذا ما استثنينا تبريره لعلاقاته العاطفية المتداخلة مع حياته الزوجية. وخلاصة القول إنها سيرة ذاتية مفعمة بالحياة والحُب والأمل وقد نجح فيها إلى حدٍ بعيد وقال فيها ما لم يقل السابقون في مذكراتهم ويومياتهم وسيرهم الذاتية التي أغنت المكتبتين العراقية والعربية على حدٍ سواء.

*** 

عدنان حسين أحمد

في المثقف اليوم