شهادات ومذكرات
سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة.. قراءة إنسانية لسيرة بطل

المقدمة: حين خطّ قلمي صفحات من ذكرياتٍ وشهادات تناقلها والديَّ عن ابن عمتهما، البطل الأسطورة سلام عادل* لم أكن أدرك أنني أفتح بابًا يُفضي إلى عالم منسي من الضوء والوجدان، عالمٍ خفيٍّ تجسّدت فيه البطولة في هيئة إنسان، لا شعار. كانت تلك الشهادات التي شربتْها ذاكرتنا العائلية عبر الحكايات، كنوزًا من المعاني والملامح الإنسانية التي قلّما تناولها التأريخ في سيرته، والتي حين نُشرت، وجدت في القلوب صدى طيبًا، أشعل في نفسي شوقًا لا ينطفئ للغوص أعمق في هذا الجانب المنسي من حياة رجل لم يكن بطلاً في ساحة النضال فحسب، بل كان كذلك إنسانًا استثنائيًا في نقائه، في خلقه، وفي حضوره النبيل. أتذكّر كيف كان والديَّ، وهم يسردون لنا ذكرياتهم عنه، يعتصرهم الحنين ويتوهّج في صوتهم الفخر والاعتزاز.
من تلك اللحظة، بدأ في داخلي شعور لم يخفت، أن هذه القامة لم تكن مجرد مناضل صلب، بل روحًا مجبولة على التضحية والسمو، أن النضال في حياته لم يكن قناعًا، بل امتدادًا لطينته الأولى. فدفعني ذلك، بعد أن لاقت كتاباتي السابقة عنه استحسانًا، إلى التوغل في مسارات سيرته، لا من بوابة السياسة كما وثقها الاخرون، بل من باب القلب، حيث تتجلّى الإنسانية، انسانيته في أسمى صورها.
اعتمدتُ في هذه الرحلة على أهم المصادر، وهو ما وثقته زوجته ورفيقة دربه، ثمينة ناجي يوسف، ذلك المرجع الموثوق والدقيق والمستند الى مراجع وشهادات ووثائق تأريخية لا لبس فيها، أغنت الرؤية وساعدتني في إعادة تشكيل الصورة، لا كسيرة لبطل سياسي كما كتب عنه الكثير فحسب، بل كإنسان عاشق للحق، نقيّ اليد، طيّب السريرَة.
ما أرجوه من هذا العمل ليس توثيقًا جامدًا، بل فعل وفاء، وفاء لروح سلام عادل الانسان الذي ظلّ، حتى لحظاته الأخيرة، حاملًا راية الكرامة، شامخًا في وجه الظلم. ووفاء لروح والديَّ، اللذين حملا إلينا حكايته، لا كحدثٍ عابر، بل كإرثٍ من المجد، نسجاه بخيوط البساطة والمحبة، فصار جزءًا من كياننا، من ذاكرتنا، ومن الحلم الذي لم يبهت رغم تقادم السنين.
هذه محاولة متواضعة، صادرة من قلبٍ ممتن، ومن ضميرٍ لا يزال مؤمنًا بأن أعظم النضالات تبدأ من أن يكون الإنسان إنسانًا.
(1): سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة
ليس ما بين دفّتي كتاب "سلام عادل: سيرة مناضل"** سيرة لرجلٍ عاديٍّ مرّ في تاريخ العراق، ولا هو تسلسل لأحداث حياة قائد سياسيّ فحسب، بل هو سفرٌ حيٌّ لأسطورة من لحم ودم، كُتبت تفاصيلها بمداد الألم، وشُكّلت ملامحها بنحت التجربة القاسية، وارتوت من معين الفكرة المتقدة بالإيمان، وانصهرت في أتون معاناة لا يخففها إلا الحلم بغدٍ حرّ.
حين يبدأ القارئ رحلته بين دفتي الكتاب، كما فعلتُ، يكتشف كم هو ضئيل ما يعرفه عن سلام عادل، ذاك الاسم الذي ارتبط في ذاكرة العراق بدم الشهداء وصلابة الموقف. لا يُعرف عنه سوى ما تسرب من وجع: سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي منذ حزيران 1955، وواحد من شهداء الانقلاب الأسود في 8 شباط 1963، حيث اعتُقل في 19 شباط، واستُشهد في السادس من آذار في دهاليز "قصر النهاية"، بعد تعذيب وحشي يفوق التصور، ارتكبته أيادٍ غارقة في فاشيتها.
الكتاب لا يسرد فصول حياة سلام عادل فقط، بل يؤرّخ لمرحلة كاملة من تاريخ الحركة الوطنية العراقية، من خلال تتبع خطى هذا الرجل الذي لم يكن مجرد قائد، بل كان روح حزبٍ، وقلب وطنٍ نابض بالمقاومة.
سلام عادل – أو حسين أحمد الرضي كما وُلد في النجف عام 1922 – لم يكن مجرّد رجل حزبيّ شغل منصب سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. بل هو روح ملتصقة بجذور الأرض، وجسد وُلد من رحم الفقر، من بيتٍ ضيّق يضجّ بالأطفال، لكنه متّسع بالكرامة، ومن دكانٍ متهالك ومطحنةٍ يملؤها غبار الطحين، حيث خُبزت الطفولة بالتعب، وعُجنت القيم بعرق الشقاء.
يبدأ الكتاب كلوحة حية تنبض بالتفاصيل: هنا لا نقرأ، بل نرى ونلمس ونشمُّ زمنًا كان سلام عادل أحد صانعيه. نغوص في ملامح الإنسان، قبل أن نشهد انبثاق القائد، نكتشف منذ الصفحات الأولى كيف كان الصمت رفيق طفولته، لا صمتَ البلادة، بل صمتَ التحديق العميق في أحوال الناس، في وجوههم المُغبرة، وأكفّهم المشققة.
من بين إخوةٍ لم يتسنَّ لهم جميعاً متابعة الدراسة، كان هو الوحيد الذي أكمل تعليمه المتوسط، والتحق بدار المعلمين في بغداد، وتخرّج عام 1943، حاملاً شهادة وأفقًا واسعًا فتح له بوّابة الوعي، هناك حيث التقى بشعلة الحزب الشيوعي لأوّل مرّة.
في عام 1944، عُيّن معلّمًا في مدينة الديوانية، وهناك بدأت رحلته الفعلية. لم يكن المعلّم الشاب مجرّد موظف يتلو دروسه، بل كان بوصلةً فكرية وروحية، يجمع بين الخط الجميل والريشة الحساسة، بين المسرح والكلمة، وبين الجَمال كقيمة نضالية والفنّ كأداة وعي.
كان يؤمن أن التعليم ليس مهنة، بل رسالة تحررية. وحين طلب من تلميذاته رسم مشهد "العيد"، انقسمت الرسومات بين أطفال الفقراء اللواتي رسمْنَ ملابس بسيطة وألعابًا من ورق، وبين بنات الأغنياء برسومات تفيض بالحلويات وبالدمى والملابس المزركشة. لم يعلّق بكلمة، بل اكتفى بعرض اللوحات جميعًا في معرض المدرسة، مُطلقًا أولى صرخاته الطبقية من دون صوت.
في ركن آخر من حياته، برز المسرح كأداة مقاومة؛ كان يُخرج العروض المدرسية، يُعدّ النصوص، ويضع الماكياج، ويوزّع الأدوار كمن يُخرّج أمّة بأكملها من الظلمة. لم يكن المسرح عنده زينةً مدرسية، بل أداة لبناء وعي جماهيري، وكان لا يتردّد في إشراك الفتيات والبنين على حدّ سواء، متحديًا أعرافًا اجتماعية متزمتة، لكنه كان يربّي من خلال الفعل لا الخطاب.
وهذا ما تحكيه رفيقته وزوجته "ثمينة ناجي يوسف"، حين تصف دخوله لأول مرة إلى صف البنات لتعليم مادة الرسم: لم يكن بحاجة إلى كلمات ليترك أثرًا، فكان حضوره وحده كافيًا لبثّ الاحترام، بحزمه العطوف، ووقاره المتواضع.
وعبر حادثة طريفة من طفولته – حين شُجَّ رأسه في إحدى اللعب – نكتشف نواة أخلاقية متجذّرة: فقد أبى أن يُفشي اسم الطفل المعتدي، رغم الضغوط، مبرهنًا على شخصية لا تُفرّط بالوعد، ولا تخون سرًا، وهو ما سيبقى طابعًا له حتى في أسوأ لحظات تعذيبه لاحقًا.
لم يكن النضال حلماً مؤجلاً لديه، بل حياة عاشها بكل انسانيتها وجوارحها. في عام 1946، فصل من وظيفته على يد مدير الأمن العام بهجت العطية، بعد أن كشفت السلطات عن نشاطه السياسي. لم ينكسر، بل واجه الحياة بشموخ: قال ببساطة متحدية: "لن أموت من الجوع... سأبيع لبنًا على الجسر". وفتح كشكًا لبيع الكبدة، ثم الكبة، ثم عمل مفتشًا على باصات النقل، ففُصل ثانية لنشاطه النقابي، ثم عاد إلى التعليم في مدرسة خاصة، ومنها إلى مدرسة التطبيقات.
كان كل باب يُغلق أمامه، يفتح بابًا آخر بإرادته التي لا تكلّ، فكان يُجسّد فعلاً فكرة: أن المناضل لا يُهزم مهما تغيرت الظروف.
في عام 1949، وبعد إحدى المظاهرات، حكم عليه بثلاث سنوات في "نقرة السلمان"، تبعتها سنتان من الإقامة الجبرية. وبعد خروجه عام 1953، لم ينتظر انتهاء محكوميته، بل فرّ من الرقابة، والتحق بالحزب في البصرة، مسؤولاً عن المنطقة الجنوبية، وهناك اقتضت ظروفه أن يتزوج ليستأجر بيتاً، فاقترن بالرفيقة ثمينة، المرأة التي رافقته حتى النهاية، والتي دونت سيرته بقلب عاشق وعين المؤرخ.
حين تقدم لخطبتها، لم يتحدث عن نضاله ولا عن تضحياته، بل قال بثقة فطرية: "أنا من بيت محترم، من عائلة أعتز بسمعتها". كان يدرك أن النَسَب الحقيقي ليس في الدم، بل في السلوك، وأن الشرف لا يُطلب بالتاريخ ولا يرى في النضال، بل امتدادًا طبيعيًا لشرف البيت.
عام 1955، اختير سكرتيرًا للحزب، في لحظة انتقالٍ ليست تنظيمية فقط، بل روحيّة أيضًا: من صفوف المعلمين إلى صدارة التنظيم، من تدريس الخط والرسم إلى وضع الخطط ورسم التوجهات لبناء الفكر الثوري. غير أن الجمال لم يغادر روحه قط، بل رافقه حتى في عتمات السجون، وحتى وهو يُعلَّق من ساقيه وتُقتلع عيناه في دهاليز قصر النهاية.
لقد كان إنسانًا في أقصى درجات النبل، يحب عائلته كما يحب الوطن، ويتحدث إلى أطفاله بنفس الحنان الذي يخاطب به الجماهير. في روايات زوجته، نلمح كم كان حريصًا على عائلته واطفاله، رغم انشغاله المطلق بالنضال والعمل السري.
كان يرى في الجماهير ليست جمهورًا مؤقتًا، بل الحاضنة الأصلية للتغيير، ورفض النظرة الفوقية أو البطولية الفردية. كان يؤمن بالقيادة الجماعية، ودفع ثمن مواقفه عندما نُقل إلى الفرات الأوسط "قبل انتخابه سكرتيرًا للحزب"، لكنه لم يتوقف، بل اندمج مع الفلاحين والمنظمات المدنية، في تجربة نضالية أعادت الحزب إلى خطّه الجماهيري.
إن وعيه السياسي لم يكن مستوردًا، بل نابعًا من صميم التجربة الشعبية. لم يُغره المنصب، ولم يُضلله المجد، بل ظل ذلك الإنسان الذي يكتب لافتة بخطّه ليزيّن بها محل بائع كبدة، ويعلّم تلميذةً كيف تُمزج في رسمة واحدة بين حزن العيد وفرحة الأمل.
سلام عادل لم يكن صوتًا للطبقة العاملة فحسب، بل ضميرها الحي، وظلّ حاضرًا في وجدان العراقيين، لا كشهيد فقط، بل كرمزٍ عاش ومات للناس.
لقد أحبّ الحياة، ولذلك قاوم الموت. أحبّ الجمال، فكان جماله فعلًا سياسيًا. أحبّ الوطن، فكان وجه الوطن آخر ما رآه حين اقتلع الجلادون عينيه.
وها هو، بعد كل هذه السنوات، لا يزال حيًا في دفاتر التلاميذ، وفي ذكريات الرفاق، وفي ضمير وطنٍ لا يزال يبحث عن حريته.
هذه الصفحات ليست تأريخًا فقط، بل بيانٌ إنسانيٌّ يُعلّمنا أن البطولة الحقة لا تصنعها الهتافات، بل يُصنعها رجالٌ يعبرون الحياة كشموع، تذوب لتنير، وتموت لتُحيا في وجدان الناس.
يتبع...
***
سعاد الراعي
..........................
*عنوان المقال الذي نشر في بعض الصحف الالكترونية "ابن العمة سلام عادل.. الأسطورة المتخفية التي مشت على حافة المستحيل"
https://www.almothaqaf.com/memoir02/981915
- الشهيد سلام عادل كان سكرتيراً للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي منذ حزيران 1955، وأنه أعتقل في 19 شباط 1963 بعد انقلاب 8 شباط 1963 الأسود الذي قام به حزب البعث والقوميون وأنه أستشهد في 6 آذار 1963 في قصر النهاية ببغداد وأنه تعرض لتعذيب شديد تقشعر له الأبدان على يد المجرمين الفاشست من الحرس القومي حيث شوّه جسده ولم يعد من السهل التعرف عليه، فقد فقئت عيناه وكانت الدماء تنزف منهما ومن أذنيه ويتدلى اللحم من يديه المقطوعتين وكُسرت عظامه وقطعت بآلة جارحة عضلات ساقيه وأصابع يديه وقُتل معه بعد الانقلاب آلاف الرفاق الشيوعيين والديمقراطيين والعديد من قادة الحزب منهم الرفاق محمد حسين أبو العيس وحسن عوينة وجمال الحيدري وجورج تللو .
ـ اسم سلام عادل الرسمي هو "حسين احمد الموسوي".. عرف باسم شائع هو حسين الرضي: ونقلا عن والديَّ، ان الرضي كنية أطلقها المرحوم والده عليه منذ صباه، تيمنًا بأخلاقه الحميدة. ويقال أيضًا انه كان لقبًا أطلقه هو على نفسه تيمنًا بالشريف الرضي حفيد الامام موسى الكاظم والذي كان يحفظ اشعاره ويرددها منذ صباه، وقد أصبح هذا اللقب عزيزًا على قلبه فرافقة طيلة حياته.. وحمله أبنائه الثلاثة من بعده.
** "كتاب سلام عادل سيرة مناضل تأليف ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد" من جزئين، الطبعة الأولى 2001 دار المدى للثقافة والنشر