شهادات ومذكرات

مصطفى العمري: البرفسور عبد الإله الصائغ كلمة حرة حاربها القدر وتشبث بها الأمل

محطة أولى: ألوذ بالكتابة لعلني أهرب مما أنا فيه، فبطش الذكريات تستهويه ملاحم العود اللامحمود، كل شيء في ذاكرتي ينطق بعبدالاله، ومن لا يجيد توظيف الذاكرة لن يدرك قيمة الانسان، لأننا مجبولون على الحب والتلاقي اولاً، وما ان يكتشف الانسان شيئاً من نرجسيته حتى يبدأ عنده البغض كعامل مساعد للأنا المتورمة.

الكتابة عن الصائغ هي هروب متقدم، ولعلني لا أغالي اذا ما قلتُ انه هروب الخلاص غير المتزن او المرتب، فالنقاشات الحادة والهادئة، الجلسات المتعددة والذكريات الطويلة ضحكاتنا الشرهة وأحاديثنا التلقائية، تتعقبني وتطاردني وتقتص مني بعبقرية الشاطر الماكر. تحاول نحري بشريط من ترصدات بعيدة. أرحل بذاتي المعتلة، لكي أهرب من عبدالاله الأخ والصديق، العالم والأديب والشاعر والناقد والمؤرخ والموسوعي والمثقف العصامي، والتنويري المعتدل. الصائغ ينحاز لجدلية المعرفة، يرتب أولوياته نحو الإرتقاء بالفرد والمجتمع وفق مبدأ المعرفة، لكي ينهض بالانسان وبالتحديد التفكير الإنساني، فهو مشغول بإنماء وعي الناس، وإخراجهم من وهم النمطية البيئية والتقديسات المثالية.

الرجل الذي حاول ان يعيش كما يريد بعيداً عن تخرصات واهمة المنال وغير قابلة للتصديق معبأة بقوالب التدين او دمس السياسة.

(يقول الصائغ عبدالإله.. أكره الأعياد كما أكره تبويس اللحى وتكرهني العماية وتغويني الغواية، عادتي ترك العادة، أكره الجغرافيا وأشمئز من التاريخ وأسعد الأمم تلك الامة التي تبدأ من الصفحة التي وصل إليها الاخرون، بعيداً عن أمجاد التاريخ المكذوب والمكتوب بالدم. القوميات بيوت طيبة متآلفة حولها بعض القوميين الى مسالخ دموية، والأديان السماوية محجات للسلام، حولها أدعياء الدين الى قطع رقاب وقطع أرزاق وقطع طرق) "من كتاب الطيور المهاجرة ورماد العودة"

سيدي الصائغ.. أهرب منك لكني ألتجئ أليك فأنت كما كنت تقولُ لي صديقي وشقيقي ورفيقي وها انا أعيدها لكن بنغم أقل جودة وبقلب متسعّر لفقدك وغيابك.

هكذا تسير الأيام ومعها اقدارنا تتهدج على أحلام اللانهاية، يرحل عبدالإله الصائغ، فيتساقط أشقاء المحنة والموقف، ويمكث فينا تراثهم وصورهم وإرشيفهم الطويل يضوع بداخلنا كنور ونار، يعبث بالذاكرة يستفزها يقلقها يستنهض فيها ذكريات غدت صورها معلقة بتلابيب القلب.

يقول الدكتور الصائغ بقصيدة بحق ابنته البارة الدكتورة وجدان الصائغ والتي قدمت الكثير لوالدها ووقفت معه إلى آخر رمق.

لو كان قلبي طائراً لطار

وارتاد كلّ آهةٍ أرّقها انتظار

يحمل في دمائه تمائم الحنين

لو كان لو لكنه المنسي في جزيرة الوباء

لم يلقى ذاك الوكن الموعود في السماء

بعيدةٌ بعيدة زرقاء يا حبيبتي الظمآء على الشطيّن

جئتُ أغنيكِ مع الغبار

والشمس في انتظاري

* القصيدة ألقاها ايضاً بلقاء على قناة الجزيرة.

محطة ثانية: الدكتور عبدالاله الصائغ بين منهج الاستقراء والاستنتاج:

ارجوكم دعونا نتأمل هذه المحطة المهمة ولكي ألخص الكلام، دعوني أحوّم حول الفكرة.

المنهج الاستقرائي هو منهج البحث في كل الشيء، بحسناته وسيئاته، لا تمايز ولا إنحياز. بينما المنهج الاستناتجي هو البحث في جزء من الشيء . كأن يكون الذكر السلبي المطلق مع إهمال متعمد او غير متعمد للجانب الإيجابي، بمعنى أخر هو إظهار الجزء الأصغر وإخفاء الجانب الأكبر.1979 abdulilah alsaegh

ولو سألنا أنفسنا هل نعرف الدكتور الصائغ وفق المنهج الاستقرائي العميق الشامل والمتأني؟ أم عرفناه من خلال حكاية شعبية أجتماعية يتداولها البسطاء من الناس؟ عندي إجابة لكني سأحتفظ بها.

يمكنني هنا أن أصنف الدكتور عبدالاله الصائغ وفق منهج الاستقراء الى قسمين:

اولاً الصائغ الاكاديمي: أثبتت مدونته العلمية انه رجل العلم والبحث حاز على شهادة الدكتوراه بجدارة عنده العديد من الكتب المطبوعة وقد يصل عددها الى اكثر من ثلاثين كتاباً، عنده موسوعته التي أنجز منها الكثير وهي باجزاء عدة تصل الى الأربعين جزءاً، لديه مقالات منشورة بالمئات. تخرج على يديه عشرات من طلاب الدكتوراه، شارك بالعديد من ألابحاث العلمية حول اللغة العربية. أسس وشارك بالعديد من المؤسسات الثقافية درّس بالعديد من الدول العربية.

والمقام هنا ليس لذكر إنجازات الصائغ الكثيرة والعديدة، بقدر ما هي إيمائة بسيطة على ان الرجل عالم حاذق ونابغة متفوق ويشهد له بذلك المختصون من أرباب العلم.

إذن الصائغ متقن ومتفنن ومُجيد بالجانب العلمي، يُصيّر فكره وعلمه ضمن سياقات اكاديمية ممهورة بقراءاته المتعددة ونبوغه المتقدم. ينحاز للفكر الخلاق دونما إلتفاتة تضلله او تحيده عن مساره العلمي.

ثانياً الصائغ الاجتماعي: الصائغ المُتقِن ببراعة في المجال العلمي، لم يكن كذلك في الجانب الاجتماعي، والمترصد عن كثب يلحظ ان ثمة فجوة بين الصائغ العالم وبين المجتمع الذي يعيش معه. فجوة ساعد في تقوية أواصرها ذلك المحول الباهت النأي بالثقافة والباعد عن توسعة الأفق البشري بالتحري والاستكشاف والمطالعة غير المقننة سلفاً. المجتمع الذي لا يعبأ بالثقافة لا يمكن له ان يعي حجم المثقف، والناس بشكل عام عندما تهجر القراءة والمطالعة، لا يمكنها الإكتراث بالكتاب او البحث العلمي. فتبدأ عملية السلخ والتباعد والسخط المكرر. وهنا يتشكل عنصران لا يمكنهما التلاقي، الا في حالات نادرة، مثقف لا يمكنه التنازل والرضوخ لمجتمع أمي، ومجتمع يرزح تحت وطئة ماكنة تجهيل مسرفة في البلاهة والسفاهه.

المجتمع الذي يسهل النزو فيه للصدارة، لا يمكن لجم جماح الطموح عند أفراده، فالمحاولات المتكررة لبعض الافراد المجهولين لإمتطاء المشهد وإعتلاء قمة الهرم لكن دون أدواة او مؤهلات او إمكانيات، يؤكد ذلك على حجم البؤس الذي نحن فيه. المجتمع الذي يحاول فرض نواميسه بكيفية غير مستقرة على شيء، لا يمكنه تقبل العالم والمثقف الذي ينود بنفسه منفرداً ومستقلاً.

المجتمعات الواعية لا تكترث كثيراً بالشكل الخارجي للأفراد بل تجدها مندكة بالتنقيب عن انجازاتهم وتصويباتهم العلمية. لكن مع الصائغ كان الوضع مختلفاً فلا هو استطاع محاباة المجتمع وطروحاته التقليدية، ولا المجتمع إرتفع بوعيه الثقافي لكي يقرأ الصائغ ويناقشه ويفاتشه بطريقة فيها نسق الاستقراء.

والحق أقول أنها ليست معضلة الصائغ وحده بل هي مأساة رهط غير قليل من المثقفين، وكأن الاختلاف بالرأي هو خلاف شخصي يستدعي معه كل أدوات الهدم ومباضع التشويه، والاقتصاص غير المنصف.

هل يستطيع مجتمعنا ان يُدرك ان القضايا لا تقاس بشكل مُبهم دون دراية او اطلاع؟

هل يستطيع مجتمعنا ان يوقف الأفراد الذين يتلاعبون بذائقة المجتمع ويردعهم عما يخوضون من أفانين غاياتها هدم الانسان؟

هل يستطيع مجتمعنا ان يفرز الأشخاص الاكفاء الى المناصب والمواقع المهمة؟ لكي لا ينزو عليها من هب ودب. ولكي لا يختلط العلمي بالاجتماعي والديني بالسياسي؟

تلك تساؤلات مشفوعة بالحب والانتماء لأصلنا ولعلنا أدركنا مؤخراً ان لا إرتقاء في هذا الكون مالم يكن الانسان متطوراً بذاته وواسع الأفق في الاستقطاب والتطور.

ولكي لا يموت الصائغ الميت كما مات حياً أحاول هنا أثير شمم واباء المثقف المطلق والمجتمع الأصيل للتداعي عن الكتابة عنه وحفظ تراثه، والعفو والصفح عما بدر منه.

في احد كتبه كتب: (الأن أموت شلواً فشلواً ويتهدم تراثي حجراً فحجراً فلم تلتفت اليّ مدينتي ولا عاصمتي وكنتُ ومازلتُ أردد من يشاء ان يبكيني فليبكيني حياً.)

شيخي ومعلمي واستاذي البروفسور عبدالاله الصائغ، كم كنت أخشى هذا اليوم وها أنا وقعتُ فيه مجبراً لما أحالك اليه قدرك مستسلماً لما نزل بك وها أنا ارثيك واكتب عنك كما كنت تتوقع دائماً.

لروحك الرحمة والسلام.

***

مصطفى العمري

 

في المثقف اليوم