نصوص أدبية
سعاد الراعي: كرامة على حافة الوجع

ما أقسى أن يُفرض عليك الانتظار في غرفة الانتظار، وما أمرّه حين يتحول إلى قدرٍ معلّق في عنقك، لا فكاك منه ولا مفرّ. ليس ذلك الانتظار العابر الذي تتجاوزه بهاتفٍ ذكي أو بنظرة إلى الساعة، بل الانتظار الذي يعتقل الزمن ويثقل الأنفاس، فيجعل من كل دقيقة نصلًا ينغرس ببطء في لحم الروح. هو ذاك الانتظار الذي لا يمنحك رفاهية الانهيار، بل يعلّقك على حافة السقوط، فلا تسقط، ولا تُشفى.
لأيامٍ مرّت، كان النوم لا يزورني إلا خلسة، كضيفٍ عابرٍ يستحي الإقامة. ساعات قصيرة واهنة، تتسلل خلالها غفوات مبتورة، تلتقط أنفاسي من حافة التعب، ثم تتركني فريسة لليلٍ بلا ملامح. كنت أتوسل الراحة، أرجو هدنة من هذا الصراع المستمر بين الجسد والعقل، بين الألم والأمل. لكنني، رغم كل شيء، كنت أتهرب من العيادات، كأن الذهاب إليها اعترافٌ بالعجز، أو استسلامٌ لما لا أحب أن أسمّيه مرضًا. كنت أهرب من وجوهٍ جامدة، من أسئلةٍ متكررة، ومن ذلك الصمت البارد الذي يخيم على غرف الانتظار، كأنما هو إعلان مبكر للموت البطيء.
كنت أضحك في داخلي، على سذاجة الأمل، حين ظننت أن مضاعفة جرعة المسكنات قد تُقنع الألم بالتراجع. كنت أرجو، بصمتٍ خافت، أن يُغلق الجسد أبواب الألم ساعة واحدة فقط، ساعة واحدة، لأتنفس، لأنام، لأتذكّر أنني ما زلت حيًّا. لكن، وكأن الأمنيات لا تُمنح إلا للمتعافين، وجدتني في النهاية أُذعن، لا خنوعًا، بل قبولًا بما لا يُطاق. قررت أن أذهب، لا ببشاشة وجه، بل بثقل الخطى وأملٍ مشكوكٍ في استحقاقه.
وصلت إلى العيادة قبل أن تُفتح أبوابها. وقفت صفوف المرضى تمتد كظل طويل لحزنٍ لا يُرى، وجوه شاحبة، أكتاف منحنية، عيون ذابلة تستند إلى أملٍ واهٍ كجدار مائل. وقفتُ بينهم، لا كغريب، بل كواحدٍ من هذا الطابور الإنساني المنهك، كأن الوجع جمعنا تحت سقفٍ واحد دون أن نعرف بعضنا.
وما إن فُتح الباب، حتى انسابت الخطى إلى الداخل، كلٌّ يحمل وجعه في صمته، ويأمل أن يُرى، أن يُسمع، أن يُعامل ككائنٍ بشري لا كرقمٍ في سجلٍّ أو ملف.
تقدمت إلى ممرضة الاستقبال، تلك التي حفظت اسمي من كثرة ترددي، لكنها كانت لا تحفظ شيئًا من أوجاعي. نظرت إليّ كمن يتفحص طردًا وصل عن طريق الخطأ، وسألتني، بصوتٍ رتيب خالٍ من الحياة، مجموعة الأسئلة ذاتها، وكأنها تقرأ من ورقة لا تتغير، لا تنصت لإجابة، ولا تكترث لمعنى. أجبتها، بصوتٍ تكسوه بقايا رجاء، وبعينين أثقلتهما السهرات الموجعة، لكن كل ما لمحتُه في عينيها كان فتورًا باردًا، كأنما تعبت هي الأخرى من الإصغاء، أو لعلها لم تحاول أصلًا.
قلتُ لها، بهدوءٍ يغلّفه الألم:
ــ أحتاج لرؤية الطبيب. لم آتِ لنزهة. الألم ساقني إليكم، وأنا مسجَّلٌ هنا. إنها حالة طارئة... طارئة بما يكفي لأن تُفهَم.
رفعت بصرها عن الشاشة وقالت، دون أن ترمش حتى:
ــ ليس لديك موعد اليوم، والطبيب يريد أن يُنهي دوامه مبكرًا.
ابتلعت كلماتها كما يُبتلع الماء المالح؛ لا يُروي ولا يُنسى. ثم، وبصوتٍ يجلله الهدوء والحزم الصامت، قلت:
ــ له الحق أن يستريح، وله أن يغادر متى شاء، ولكن لي، أنا المريض، حقي في أن أُسمع، أن أُرى. لم أطلب امتيازًا، بل فرصة للنجاة. وسأنتظر هنا، بكل وقتي وصبري وألمي وكرامتي، لأنني لم أعد أملك خيارًا آخر.
جلستُ على أقرب مقعد، لا منكسَرًا، بل مرفوع الرأس، أحمل في داخلي كرامةً جريحة، وأخفي وجعي تحت قشرة من الصبر باتت تتهشم من ثقل ما تحمل. كنتُ أعلم أنني مجرد وجه في زحام، مجرد رقم في نظام لا وقت لديه للإنسان، لكنني كنت أيضًا إنسانًا، له اسم، وله ألم، وله الحق أن يُنصَت إليه.
نظرت إليّ الممرضة، نظرة سريعة، وفي عينيها بريق يشبه التردد، كأنها كانت تقيس حجم إصراري، لتقرر ما إن كانت ستقاومه أو تستسلم له. وبعد لحظة صامتة امتدت بعمر الوجع، قالت:
ــ انتظر... سأُبلِغ الطبيب.
لم أبتسم، لم أفرح، بل شعرت فقط أنني انتصرت، لا عليها، بل على الانكسار. جلست هناك، وسط ضجيج الحركات والأنفاس، أراقب وجوهًا جديدة تدخل وتُستقبل بلا تردد، وكأن ما قيل لي قبل لحظات لم يكن سوى قناع هش لرفضٍ خالٍ من الانسانية، او لربما لأني احمل اسما عربيا!
عندها أدركت يقينًا لا يُناقش: أن من لا يسعى لنيل حقه يُمحى، ويُهمّش، ويُقصى بصمت. وأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع بشجاعةٍ هادئة وصبرٍ ناطق لا يصمت حين يُطلب منه الصمت.
كنتُ مزيجًا من الألم والرجاء، من الضعف والصلابة، أتنفس بصعوبة، لكنني لم أنهزم. ولم أكن أطلب سوى لحظة إنسانية... لحظة يُقال لي فيها: "أنت لست وحدك."
مضى الوقت بثقلٍ خانق، كأن عقارب الساعة تئنّ. العيادة تضجّ بأصوات ووجوه، لكنها بدت لي فراغًا مكتوم الأنفاس. وحده الألم ظلّ واضحًا، يقرع أضلعي كما لو أنه يُذكّرني بسبب وجودي وانتظاري هنا، في هذا المكان الذي لم يعد يليق بالحياة.
ثم، أخيرًا، فُتح الباب الداخلي، وخرجت الممرضة بإيماءة سريعة:
ــ تفضل، الطبيب سيقابلك الآن.
نهضت، لا بعجلة، بل بخطى رزينة، كأنني أعبر إلى قدرٍ جديد. دخلت الغرفة كمن يدخل ساحة مساءلة، لا عيادة مداواة. رأيت الطبيب خلف مكتبه، يقلب الملفات كمن يبحث عن حجةٍ للتجاهل. رفع بصره، لمحني، ثم أشار إلى الكرسي.
قال، بنبرة خالية من الدفء:
ــ لم يكن لديك موعدًا... هل تشعر أن حالتك طارئة؟
نظرت في عينيه وقلت، بهدوء رجل أنهكه الصمت:
ــ هناك آلام لا تُقاس بحرارة، ولا تُرى في تحليل، ولا تُقرأ في رسم قلب. هناك وجعٌ يسكنك كطيفٍ لا يغادر، ينهشك من الداخل دون أن يترك أثرًا على جلدك. أنا لا أطلب فضلًا، بل أهرب من قاعٍ آخذ في الانهيار.
سكت الطبيب لبرهة، ثم قال للممرضة:
ــ أعدّي له الفحوصات اللازمة، وسأبدأ بالفحص.
لم أشكره. لم أحتج إلى شكر. فقط أومأت برأسي، لأنني كنت أعلم أنني في تلك اللحظة لم أُعامَل كرقم، بل كإنسان له وجع، وله اسم.
خرجت من العيادة لا بشفاء، ولكن بنفسٍ أخف، بشعورٍ أنني لم أُهزم. كان الألم لا يزال في قدمي، لكن روحي كانت واقفة، شامخة. كنت أعرف الآن أن الصمت لا يُجدي، وأن الكرامة تستحق أن يُقاتَل من أجلها، حتى في أبسط تفاصيل الحياة.
ربما لم يتغير شيء في الخارج. لكن شيئًا في داخلي ترسّخ: أن الإنسان لا يُرى إلا إذا أصرّ على أن يكون مرئيًّا، ولا يُسمع إلا إذا تمسّك بحقه في أن يُصغى إليه.
وذلك، في زمن التبلّد، انتصار لا يُستهان به.
**
سعاد الراعي
14.06.2025